
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل للأعياد فرحة وللعبادات توقيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً وتكبيراً، وأن محمداً عبده ورسوله ﷺ بعثه الله للعالمين بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي خير الزاد ليوم المعاد.
عباد الله: كان المشركون يتخذون أعياداً زمانية ومكانية، فأبطلها الإسلام وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى شكراً لله تعالى على أداء عبادتين عظيمتين، صومِ رمضان وحجِّ بيت الله الحرام.
يأتي عيد الفطر بعد انتهاء عبادة الصيام، ويأتي عيد الأضحى بعد وقوف الناس بعرفة ركنِ الحج الأعظم .
وجاء في السنة المطهرة مشروعية الاحتفال بهذين العيدين، وبيَّن النبي ﷺ أحكامهما وفضلهما، وهذان العيدان ليسا مجرد فرح دنيوي، بل هما امتداد لشعائر العبادة والتقوى، وفرصة للتزود بالطاعات وتقوية الروابط الاجتماعية.
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان لأهلها يومان يلعبون فيهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكما بهما خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم النحر) رواه الطحاوي . وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً اختصاص الأمم بأعيادٍ معينة: (لكل قومٍ عيد، وهذا عيدنا) رواه البيهقي .
وسمي العيد عيداً؛ لأنه يعود ويتكرر كل عام؛ ولأنه يعود بالفرح والسرور، ويعود الله فيه بالإحسان على عباده على إثر أدائهم لطاعته بالصيام والحج.
وصلاة العيد سنة مؤكدة، يؤديها المسلم جماعة في المساجد أو الساحات، ويجوز أن تصلى في البيوت للنساء والمرضى. وفي البخاري عن أم عطية رضي الله عنها، قالت: أُمرنا أن نُخْرِجَ الحُيَّضَ يوم العيدين، وذوات الخدور، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحُيَّضَ عن مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول الله! إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها). وقال ﷺ أيضاً: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) متفق عليه.
وهو يعكس تقدير الشريعة لمشاركة المرأة في العبادات والفرح الجماعي، وخروجهن مشروط بالستر والحشمة وعدم الزينة.
والخروج لأداء صلاة العيد فيه إظهارٌ لشعار الإسلام، فهي من أعلام الدين الظاهرة، وأول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للعيد يوم الفطر من السنة الثانية من الهجرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يواظب عليها حتى فارق الدنيا، واستمر عليها المسلمون خلفاً عن سلف.
يبدأ وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها قدر رمح؛ لأنه الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها فيه، ويمتد وقتها إلى زوال الشمس، فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعد الزوال، صلوا من الغد قضاءً؛ لما روى أبو عمير بن أنس بن مالك، قال: حدثني عمومتي من الأنصار، قالوا: أُغمي علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء رَكْبٌ من آخر النهار، فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا، وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد. رواه ابن ماجه .
ويسن تقديم صلاة الأضحى، وتأخير صلاة الفطر؛ ليتسع الوقت للناس لإخراج زكاة الفطر، وتعجيل الأضحى لأجل أن يتمكن الناس من ذبح الأضاحي.
ومن السنن المشروعة في العيدين: الغُسل والتطيب ولبس أجمل الثياب، وأكل شيء من التمر قبل الخروج لصلاة عيد الفطر، والمخالفة في الطريق ذهاباً وإياباً، وإظهار الفرح والسرور. وهذه السنن تجمع بين العبادة والتهذيب النفسي والاجتماعي، وتعكس طاعة الله في السر والعلن.
ويسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات، أما الأضحى فإنه لا يأكل حتى يصلي لقول بُريدة رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يَطْعَمَ يوم النحر حتى يصلي) رواه الترمذي وغيره.
ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد؛ ليتمكن من الدنو من الإمام، ويكسب الأجر العظيم بانتظار الصلاة.
والتكبير من أهم مظاهر العيدين؛ ففي عيد الفطر يبدأ التكبير من ليلة العيد حتى الشروع في الصلاة، وفي عيد الأضحى يبدأ التكبير من يوم عرفة وحتى آخر أيام التشريق، قال تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة:203]. والتكبير يرفع الهمم ويذكر المسلمين بعظمة الله ونعمه.
وصلاة العيد ركعتان قبل الخطبة؛ لقول ابن عمر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلُّون العيدين قبل الخطبة) متفق عليه، وقد استفاضت السنَّة بذلك، وعليه عامة أهل العلم، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة.
ولا تُسنُّ صلاة النافلة قبلهما ولا بعدهما في المسجد؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما) رواه أبو داود، . ولا يشرع لصلاة العيد أذانٌ ولا إقامة؛ لما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: (شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة).
وصفة صلاة العيد أن يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يُتبعها بست تكبيرات أُخر، ثم يقرأ دعاء الاستفتاح، ثم الفاتحة وسورة، ويسن أن يقرأ بسورة (الأعلى)، ويكبر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، ثم يقرأ الفاتحة وسورة، ويُسن أن يقرأ سورة (الغاشية) ولو قرأ بغيرهما جاز. ويرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير.
ويُسن لمن فاتته صلاة العيد أو فاته بعضها، قضاؤها على صفتها، بأن يصليها ركعتين بتكبيراتها الزوائد؛ لأن القضاء يحاكي الأداء، يعني: إذا فاتته صلاها ركعتين بتكبيراتها كما يصليها الإمام، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) متفق عليه. فإذا فاتته ركعة مع الإمام أضاف إليها أخرى. وإذا جاء والإمام يخطب جلس لاستماع الخطبة، فإذا انتهت صلاها قضاءً بعد ذلك، ولا بأس بقضائها منفرداً أو في جماعة.
ويُسن في العيدين التكبير المطلق، وهو الذي لا يتقيد بوقت، يرفع به صوته، إلا الأنثى فإنها لا تجهر به، فيكبر في ليلتي العيدين وفي كل عشر ذي الحجة؛ لقوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} (البقرة:185).
وإذا وافق العيد يوم جمعة، يصلي الإمام الصلاتين يصلي العيد والجمعة؛ لأجل أن يخطب بالناس، أما الناس فيرخص لهم إذا حضروا العيد ألا يأتوا إلى الجمعة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمِّعون) رواه أبو دواد . فلا بد أن تقام صلاة العيد وتقام صلاة الجمعة، ولكن من حضر صلاة العيد لا يجب عليه حضور صلاة الجمعة، ولكن لا بد له أن يصلي الظهر؛ لأنها فرض الوقت، ولا يجوز تركها.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
وإظهار الفرحة بالعيد سُنَّة، بما لا يخالف الشريعة من اللهو المباح الذي أذن الله فيه، والتوسعة على الأهل والأولاد، ففرحة العيد لا تعني الخروج من الحلال إلى الحرام، ومعصية الله في هذا اليوم العظيم.
وتُشرع التهنئة بالعيد؛ لما لها من أثر في توطيد الألفة بين المسلمين، وتعزز المحبة والمودة بينهم، وتذكرهم بالأُخُوَّة في الدين، وتؤكد على وحدة المجتمع الإسلامي.
والعيد فرصة للتذكير بالإيمان والعمل الصالح، وإحياء الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، والتقوى، والرحمة، والتعاون. فهو ليس فرحاً دنيويًّا فحسب، بل مناسبة تربوية تعلم المسلم القيم العليا، وتذكره بأن الحياة الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار، وأنها هي خير وأبقى.
أيها الإخوة الأحبة، اجعلوا العيد فرصة للتقرب إلى الله، ومراجعة النفس، ومضاعفة الطاعات، وصلة الأرحام، وأظهروا فرحكم بما يرضي الله، وادخلوا السرور على قلوب الأهل والأصدقاء، وتذكروا الفقراء والمحتاجين. نسأل الله أن يعيد علينا هذه الأعياد ونحن وأمتنا في أمن وإيمان، وأن يتقبل صيامنا وصلاتنا وصالح أعمالنا، وأن يجعلنا من الفائزين بجناته ورضوانه، آمين.
وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.