[ ص: 99 ] المسألة الخامسة
إذا
nindex.php?page=treesubj&link=22136قال الصحابي : كنا نفعل كذا ، وكانوا يفعلون كذا ، وذلك كقول
عائشة : " كانوا لا يقطعون في الشيء التافه " .
وكقول
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي [1] كانوا يحذفون التكبير حذفا ، فهو عند الأكثرين محمول على فعل الجماعة دون بعضهم ، خلافا لبعض الأصوليين .
ويدل على مذهب الأكثرين أن الظاهر من الصحابي أنه إنما أورد ذلك في معرض الاحتجاج ، وإنما يكون ذلك حجة إن لو كان ما نقله مستندا إلى فعل الجميع ؛ لأن فعل البعض لا يكون حجة على البعض الآخر ، ولا على غيرهم .
فإن قيل : لو كان ذلك مستندا إلى فعل الجميع لكان إجماعا ، ولما ساغ مخالفته بطريق الاجتهاد فيه ، وحيث سوغتم ذلك دل على عوده إلى البعض دون الكل .
قلنا : تسويغ الاجتهاد فيه إنما كان لأن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظنا لا قطعا ، وذلك كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان طريق اتباعه ظنيا ، وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد عندما إذا ثبت بطريق قاطع .
وأما إن كان الراوي غير صحابي ، فمستنده في الرواية إما قراءة الشيخ ، لما يرويه عنه ، أو القراءة على الشيخ أو إجازة الشيخ له ، أو أن يكتب له كتابا بما يرويه عنه ، أو يناوله الكتاب الذي يرويه عنه ، أو أن يرى خطا يظنه خط الشيخ بأني سمعت عن فلان كذا .
فإن كان مستنده في الرواية قراءة الشيخ ، فإما أن يكون الشيخ قد قصد إسماعه بالقراءة أو لم يقصد إسماعه بطريق من الطرق : فإن قصد إسماعه بالقراءة أو مع غيره ، فهذا هو أعلى الرتب في الرواية ، وللراوي عنه
[ ص: 100 ] أن يقول : حدثنا وأخبرنا ، وقال فلان ، وسمعته يقول كذا ، وإن لم يقصد إسماعه فليس له أن يقول حدثنا وأخبرنا ؛ لأنه يكون كاذبا في ذلك ، بل له أن يقول : قال فلان كذا وسمعته يقول كذا ، ويحدث بكذا ، ويخبر بكذا .
وأما القراءة على الشيخ مع سكوت الشيخ من غير ما يوجب السكوت عن الإنكار ، من إكراه أو غفلة أو غير ذلك ، فقد اتفقوا على وجوب العمل به ، خلافا لبعض أهل الظاهر ؛ لأنه لو لم تكن روايته صحيحة لكان سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقا ، لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح ، وذلك بعيد عن العدل المتدين .
ثم اتفق القائلون بالصحة على تسليط الراوي على قوله : أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه .
واختلفوا في جواز قوله : حدثنا وأخبرنا مطلقا ، والأظهر امتناعه ; لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ ، وذلك من غير نطق منه كذب .
وأما إجازة الشيخ ، وذلك بأن يقول : أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني ، أو ما صح عندك من مسموعاتي ، فقد اختلفوا في جواز
nindex.php?page=treesubj&link=29198الرواية بالإجازة : فجوزه أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل ، وأكثر المحدثين ، واتفق هؤلاء على تسليط الراوي على قوله : أجازني فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة ، واختلفوا في قوله حدثني وأخبرني مطلقا .
والذي عليه الأكثر ، وهو الأظهر ، أنه لا يجوز لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب .
وقال
أبو حنيفة وأبو يوسف : لا تجوز الرواية بالإجازة مطلقا .
وقال
أبو بكر الرازي [2] من أصحاب
أبي حنيفة ، إنه إن كان المجيز والمجاز له قد علما ما في الكتاب الذي أجاز روايته ، جازت روايته بقوله : أخبرني وحدثني .
[ ص: 101 ] وذلك كما لو كتب إنسان صكا ، والشهود يرونه ثم قال لهم : اشهدوا علي بجميع ما في هذا الصك ، فإنه يجوز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك الكتاب ، وإلا فلا .
والمختار إنما هو جواز الرواية بالإجازة ، وذلك لأن المجيز عدل ثقة ، والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته ، وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقا ، وهو بعيد عن العدل .
وإذا علمت الرواية أو ظنت بإجازته ، جازت الرواية عنه كما لو كان هو القارئ أو قرئ عليه وهو ساكت .
فإن قيل : إنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث ، ولا ما يجري مجرى فعله ، فلم يجز أن يقول الراوي عنه : أخبرني ، ولا حدثني لأنه يكون كذبا ، ولأنه قادر على أن يحدث به ، فحيث لم يحدث به دل على أنه غير صحيح عنده .
قلنا : هذا باطل بما إذا كان الراوي عن الشيخ هو القارئ ، فإنه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ، ولا ما يجري مجراه وهو قادر على القراءة بنفسه ، ومع ذلك ، فإنه يجوز للراوي أن يقول : أخبرني وحدثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحة الحديث .
وعلى ما ذكرناه من الخلاف في الإجازة والمزيف والمختار يكون الكلام فيما إذا ناوله كتابا فيه حديث سمعه ، وقال له : قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه ، وله أن يقول : ناولني فلان كذا ، وأخبرني ، وحدثني مناولة .
وكذلك الحكم أيضا إذا كتب إليه بحديث ، وقال : أجزت لك روايته عني فإنه يدل على صحته ، ويسلط الراوي على أن يقول : كاتبني بكذا وحدثني أو أخبرني بكذا كتابة .
ولو
nindex.php?page=treesubj&link=29199_29200اقتصر على المناولة أو الكتابة دون لفظ الإجازة ، لم تجز له الرواية ، إذ ليس في الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه ولا على صحة الحديث في نفسه .
أما رؤية خط الشيخ بأني سمعت من فلان كذا ، فلا يجوز مع ذلك الرواية عنه ، وسواء قال : هذا خطي ، أو لم يقل ؛ لأنه قد يكتب ما سمعه ، ثم يشكك فيه ، فلا بد من التسليط من قبل الشيخ على الرواية عنه بطريقة ، إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته ، إجماعا ، وعلى هذا ، فلو روى كتابا عن بعض المحدثين ، وشك في حديث واحد منه
[ ص: 102 ] غير معين ، لم تجز له روايته
[3] شيء منه ، لأنه ما من واحد من تلك الأحاديث إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك فيه .
وكذلك لو روى عن جماعة حديثا ، وشك في روايته عن بعضهم من غير تعيين ، فليس له الرواية عن واحد منهم ، لأنه ما من واحد إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك في الرواية عنه ، والرواية مع الشك ممتنعة .
نعم ، لو غلب على ظنه رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه ، فهذا مما اختلف فيه .
فقال
أبو حنيفة : لا تجوز روايته ولا العمل به ، لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه به ، فلا يجوز مع عدم العلم ، كما في الشهادة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن : تجوز له الرواية والعمل به ؛ لأن ذلك مما يغلب على الظن صحته .
ولهذا فإن آحاد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يحملون كتب الرسول إلى أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها ، وكان يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنها من كتب الرسول ، وإن لم يكن ما فيها مما سمعه الحامل ، ولا المحمول إليه لكونها مغلبة على الظن .
ولا كذلك في الشهادة ; لأنه قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية ، كما ذكرناه فيما تقدم .
وعلى هذا ، فلو قال عدل من عدول المحدثين عن كتاب من كتب الحديث ، إنه صحيح ، فالحكم في جواز الأخذ به والخلاف فيه ، كما سبق فيما إذا ظن أنه يرويه ، مع الاتفاق على أنه لا تجوز روايته عنه بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه .
[ ص: 99 ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=22136قَالَ الصَّحَابِيُّ : كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ
عَائِشَةَ : " كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ " .
وَكَقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=12354إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ [1] كَانُوا يَحْذِفُونَ التَّكْبِيرَ حَذْفًا ، فَهُوَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ عَلَى فِعْلِ الْجَمَاعَةِ دُونَ بَعْضِهِمْ ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ .
وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً إِنْ لَوْ كَانَ مَا نَقَلَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى فِعْلِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى فِعْلِ الْجَمِيعِ لَكَانَ إِجْمَاعًا ، وَلَمَا سَاغَ مُخَالَفَتُهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ ، وَحَيْثُ سَوَّغْتُمْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى عَوْدِهِ إِلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ .
قُلْنَا : تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَى الْجَمِيعِ وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا ، وَذَلِكَ كَمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْقَاطِعَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا كَانَ طَرِيقُ اتِّبَاعِهِ ظَنِّيًّا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ عِنْدَمَا إِذَا ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَاطِعٍ .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ صَحَابِيٍّ ، فَمُسْتَنَدُهُ فِي الرِّوَايَةِ إِمَّا قِرَاءَةُ الشَّيْخِ ، لِمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ ، أَوِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ أَوْ إِجَازَةُ الشَّيْخِ لَهُ ، أَوْ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ ، أَوْ يُنَاوِلُهُ الْكِتَابَ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ ، أَوْ أَنْ يَرَى خَطًّا يَظُنُّهُ خَطَّ الشَّيْخِ بِأَنِّي سَمِعْتُ عَنْ فُلَانٍ كَذَا .
فَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ فِي الرِّوَايَةِ قِرَاءَةَ الشَّيْخِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ قَدْ قَصَدَ إِسْمَاعَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ إِسْمَاعَهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ : فَإِنْ قَصَدَ إِسْمَاعَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ ، فَهَذَا هُوَ أَعْلَى الرُّتَبِ فِي الرِّوَايَةِ ، وَلِلرَّاوِي عَنْهُ
[ ص: 100 ] أَنْ يَقُولَ : حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا ، وَقَالَ فُلَانٌ ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِسْمَاعَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ ، بَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ : قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا ، وَيُحَدِّثُ بِكَذَا ، وَيُخْبِرُ بِكَذَا .
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ مَعَ سُكُوتِ الشَّيْخِ مِنْ غَيْرِ مَا يُوجِبُ السُّكُوتَ عَنِ الْإِنْكَارِ ، مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَتُهُ صَحِيحَةً لَكَانَ سُكُوتُهُ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِسْقًا ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ صِحَّةِ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَدْلِ الْمُتَدَيِّنِ .
ثُمَّ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالصِّحَّةِ عَلَى تَسْلِيطِ الرَّاوِي عَلَى قَوْلِهِ : أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فُلَانٌ قِرَاءَةً عَلَيْهِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ قَوْلِهِ : حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا مُطْلَقًا ، وَالْأَظْهَرُ امْتِنَاعُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ مِنْهُ كَذِبٍ .
وَأَمَّا إِجَازَةُ الشَّيْخِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ : أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ ، أَوْ مَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ مَسْمُوعَاتِي ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=29198الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ : فَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ ، وَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَسْلِيطِ الرَّاوِي عَلَى قَوْلِهِ : أَجَازَنِي فُلَانٌ كَذَا وَحَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي إِجَازَةً ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا .
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ بِذَلِكَ وَهُوَ كَذِبٌ .
وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ مُطْلَقًا .
وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ [2] مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ ، إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُجِيزُ وَالْمُجَازُ لَهُ قَدْ عَلِمَا مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَجَازَ رِوَايَتَهُ ، جَازَتْ رِوَايَتُهُ بِقَوْلِهِ : أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي .
[ ص: 101 ] وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَتَبَ إِنْسَانٌ صَكًّا ، وَالشُّهُودُ يَرَوْنَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمُ : اشْهَدُوا عَلَيَّ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الصَّكِّ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجِيزَ عَدْلٌ ثِقَةٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مَا عُلِمَ صِحَّتُهُ ، وَإِلَّا كَانَ بِإِجَازَتِهِ رِوَايَةَ مَا لَمْ يَرَوْهُ فَاسِقًا ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَدْلِ .
وَإِذَا عُلِمَتِ الرِّوَايَةُ أَوْ ظُنَّتْ بِإِجَازَتِهِ ، جَازَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْقَارِئَ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِتٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُحَدِّثِ فِعْلُ الْحَدِيثِ ، وَلَا مَا يَجْرِي مَجْرَى فِعْلِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عَنْهُ : أَخْبَرَنِي ، وَلَا حَدَّثَنِي لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ ، فَحَيْثُ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ بِمَا إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنِ الشَّيْخِ هُوَ الْقَارِئَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الشَّيْخِ فِعْلُ الْحَدِيثِ ، وَلَا مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِنَفْسِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَقُولَ : أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي حَيْثُ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِ مَعَ السُّكُوتِ دَلِيلَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ .
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُزَيَّفِ وَالْمُخْتَارِ يَكُونُ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا نَاوَلَهُ كِتَابًا فِيهِ حَدِيثٌ سَمِعَهُ ، وَقَالَ لَهُ : قَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا فِيهِ ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ : نَاوَلَنِي فُلَانٌ كَذَا ، وَأَخْبَرَنِي ، وَحَدَّثَنِي مُنَاوَلَةً .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ أَيْضًا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ بِحَدِيثٍ ، وَقَالَ : أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَيُسَلِّطُ الرَّاوِي عَلَى أَنْ يَقُولَ : كَاتَبَنِي بِكَذَا وَحَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا كِتَابَةً .
وَلَوِ
nindex.php?page=treesubj&link=29199_29200اقْتَصَرَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ دُونَ لَفْظِ الْإِجَازَةِ ، لَمْ تَجُزْ لَهُ الرِّوَايَةُ ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْوِيغِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَلَا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهِ .
أَمَّا رُؤْيَةُ خَطِّ الشَّيْخِ بِأَنِّي سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ عَنْهُ ، وَسَوَاءٌ قَالَ : هَذَا خَطِّي ، أَوْ لَمْ يَقُلْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ مَا سَمِعَهُ ، ثُمَّ يُشَكِّكُ فِيهِ ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيطِ مِنْ قِبَلِ الشَّيْخِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِطَرِيقَةٍ ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ رِوَايَةُ مَا شَكَّ فِي رِوَايَتِهِ ، إِجْمَاعًا ، وَعَلَى هَذَا ، فَلَوْ رَوَى كِتَابًا عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ ، وَشَكَّ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْهُ
[ ص: 102 ] غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، لَمْ تَجُزْ لَهُ رِوَايَتُهُ
[3] شَيْءٍ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ حَدِيثًا ، وَشَكَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، فَلَيْسَ لَهُ الرِّوَايَةُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَشْكُوكَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، وَالرِّوَايَةُ مَعَ الشَّكِّ مُمْتَنِعَةٌ .
نَعَمْ ، لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَسَمَاعِهِ مِنْهُ ، فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ .
فَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ ، كَمَا فِي الشَّهَادَةِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِحَّتُهُ .
وَلِهَذَا فَإِنَّ آحَادَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَحْمِلُونَ كُتُبَ الرَّسُولِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ فِي أُمُورِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْأَخْذُ بِهَا بِإِخْبَارِ حَامِلِهَا أَنَّهَا مِنْ كُتُبِ الرَّسُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا مِمَّا سَمِعَهُ الْحَامِلُ ، وَلَا الْمَحْمُولُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهَا مُغَلِّبَةً عَلَى الظَّنِّ .
وَلَا كَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ قَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ مِثْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَعَلَى هَذَا ، فَلَوْ قَالَ عَدْلٌ مِنْ عُدُولِ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ ، إِنَّهُ صَحِيحٌ ، فَالْحُكْمُ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ وَالْخِلَافِ فِيهِ ، كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يَرْوِيهِ ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا ظَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ .