( فصل )
ومما يبين الأمر في ذلك
[1] أن
nindex.php?page=treesubj&link=18267_29442المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص وأنه متصف بصفات الكمال ، لكن قد ينازعون في بعض الأمور : هل النقص إثباتها أو نفيها ؟ وفي طريق العلم بذلك .
فهذا المصنف
nindex.php?page=treesubj&link=28833_28712_28713الإمامي اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم من أن الاعتماد في تنزيه الرب عن النقائص على نفي كونه جسما ، ومعلوم أن [ ص: 564 ] هذه الطريقة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا هي مأثورة عن أحد من السلف ، فقد علم أنه لا أصل لها في الشرع ، وجمهور أصحابها يسلمون ذلك ، لكن يدعون أنها معلومة من جهة العقل .
فقال لهم القادحون في طريقهم : هذا أيضا باطل ، فإنه لا يمكن تنزيه الله تعالى عن شيء من النقائص والعيوب لاستلزام ذلك كونه جسما ، فإنه ما من صفة يقول القائل : إنها تستلزم التجسيم
[2] ، إلا والقول فيما أثبته كالقول فيما نفاه .
وهو لا بد أن يثبت شيئا ، وإلا لزم أن ينفي الموجود القديم الواجب بنفسه ، وحينئذ فأي صفة قال فيها : إنها لا تكون إلا لجسم ، أمكن أن يقال له مثل ذلك فيما أثبته . وإن كانت تلك صفة نقص ، فلو أراد أن ينزه الله تعالى عن الجهل والعجز والنوم وغير ذلك ، فإن هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام ; قيل له : وما تثبته أنت من الأسماء أو الأحكام أو الصفات لا تكون إلا للأجسام .
ولهذا كان من رد بهذه الطريق على الواصفين لله بالعيوب والنقائص كلامهم متناقض ، ولهذا لم يعتمد الله ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة فيما ينكرونه على
اليهود وغيرهم - ممن وصف الله تعالى بشيء من النقائص كالبخل والفقر واللغوب والصاحبة والولد والشريك - على هذه الطريق .
ثم إن كثيرا ممن يسلك هذه الطريق حتى من الصفاتية يقولون :
[ ص: 565 ] إن كون الرب منزها عن النقص متصفا بالكمال مما لا نعرفه بالعقل بل بالسمع ، وهو الإجماع الذي استند إليه .
وهؤلاء لا يبقى عندهم طريق عقلي ينزهون الله تعالى به عن شيء من النقائص ، والإجماع الذي اعتمدوا عليه إنما ينفع في الجمل دون التفاصيل التي هي
[3] محل نزاع بين المسلمين ، فإنه يمتنع أن يحتج بالإجماع في موارد النزاع ، ثم الإجماع يستندون فيه إلى بعض النصوص ، ودلالة النصوص على صفات الكمال أظهر وأكثر وأقطع من دلالة النصوص على كون الإجماع حجة .
وإذا عرف
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28712ضعف أصول النفاة للصفات فيما ينزهون عنه الرب ، فهؤلاء
الرافضة طافوا على أبواب المذاهب ، وفازوا بأخس المطالب ، فعمدتهم في العقليات على عقليات باطلة ، وفي السمعيات على سمعيات باطلة . ولهذا كانوا من أضعف الناس حجة وأضيقهم محجة ، وكان الأكابر من أئمتهم متهمين بالزندقة والانحلال ، كما يتهم غير واحد من أكابرهم .
والمقصود هنا أن هذا الباب تكلم الناس فيه بألفاظ مجملة مثل التركيب والانقسام والتجزئة والتبعيض ونحو ذلك . والقائل إذا قال : إن الرب تعالى ليس بمنقسم ولا متجزئ ولا متبعض ولا مركب ونحو ذلك ، فهذا إذا أريد به ما هو المعروف من معنى ذلك في اللغة ، فلا نزاع بين المسلمين أن الله منزه عن ذلك ، فلا يجوز أن يقال : إنه مركب من أجزاء متفرقة ، سواء قيل : إنه مركب بنفسه أو ركبه غيره ، ولا أنه مركب يقبل
[ ص: 566 ] التفريق والتجزئة والتبعيض ، وإن لم يكن كان متفرقا فاجتمع ، كما يقال ذلك في الأجسام ، فإنه سبحانه وإن كان خلق الحيوان والنبات فأنشأه شيئا بعد شيء ، لم تكن يد الإنسان ورجله ورأسه متفرقة فجمع بينها
[4] ، بل خلق هذه الأعضاء جملة ، لكن يمكن تفريق بعضها عن بعض ، فيمتنع أن يقال : إن الله سبحانه وتعالى يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بهذا الاعتبار . فهذان معنيان متفق عليهما ، لا أعلم مسلما له قول في الإسلام قال بخلاف ذلك .
وإن قال : إن المراد بالتركيب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة ، وبالانقسام والتجزئة أنه مشتمل على هذه الأجزاء ، فجمهور العقلاء يقولون : إن هذه المخلوقات المشار إليها ، كالشمس والقمر والأفلاك والهواء والنار والتراب ، ليست مركبة
[5] لا هذا التركيب ولا هذا التركيب ، وكيف برب العالمين ؟ !
فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المخلوق المشار إليه ، الذي هو عال على غيره كعلو السماء على الأرض ، إذا كان جمهور العقلاء يقولون : إنه ليس مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ - وهي الجواهر المنفردة - عند القائلين بها ، ولا من المادة والصورة ، كان منعهم أن يكون رب العالمين مركبا من هذا وهذا أولى .
وأما من قال : إن هذه الأعيان المشار إليها مركبة من هذا وهذا ، فكثير منهم -
كالمعتزلة والأشعرية - ينفون عن الرب تعالى هذا التركيب . ولكن
[ ص: 567 ] كثير من شيوخ الكلام يقولون : إن الله تعالى جسم ، فإذا كان من هؤلاء من يقول : إن الجسم مركب من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة ، فقد يقول : إنه مركب بهذا الاعتبار وبهذا .
وهذا القول باطل عند جماهير المسلمين ، لكن جمهور العقلاء ينكرون هذا التركيب في المخلوقات ، فهم في الخالق أشد إنكارا .
ومن قال : إن المشار إليه المخلوق مركب هذا التركيب ، فهؤلاء يحتاجون في نفي ذلك عن الرب إلى برهان عقلي يبين امتناع مثل ذلك ، فإن منازعيهم الذين يقولون بثبوت مثل هذا المعنى الذي جعلوه تركيبا ، يقولون : إنه لا برهان لهم على نفيه ، بل المقدمات التي وافقونا عليها من إثبات مثل هذا التركيب في الشاهد ، يدل على ثبوته في الغائب ، كما في نظائر ذلك مما يستدل به على الغائب بالشاهد .
وبين الطائفتين في هذا منازعات عقلية ولفظية ولغوية ، قد بسطت في غير هذا الموضع .
وأما جمهور العقلاء ، مع السلف والأئمة ، فعندهم أن الطائفتين مخطئتان ،
nindex.php?page=treesubj&link=28707وتنزيه الرب عن ذلك تبين بالعقل مع الشرع ، كما بين من غير سلوك الشبهات الفاسدة .
وأما إذا قيل : المراد بالانقسام أو التركيب أن يتميز منه شيء عن شيء ، مثل تميز علمه عن قدرته ، أو تميز ذاته عن صفاته ، أو تميز ما يرى منه عما لا يرى ، كما قاله السلف في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لا تدركه الأبصار ) [ سورة الأنعام : 103 ] ، قالوا : لا تحيط به . وقيل
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس رضي الله عنه : أليس الله تعالى يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لا تدركه الأبصار ) قال : ألست ترى
[ ص: 568 ] السماء ؟ قال : بلى . قال : أفكلها ترى ؟ قال : لا
[6] ; فذكر أن الله يرى ولا يدرك ، أي لا يحاط به ، ونحو ذلك .
فهذا الامتياز على قسمين : أحدهما : امتياز في علم العالم منا بأن نعلم شيئا ولا نعلم الآخر ، فهذا أيضا لا يمكن العاقل أن ينازع فيه بعد فهمه ، وإن قدر أن فيه نزاعا ، فإن الإنسان قد يعلم أنه موجود قبل أن يعلم أنه عالم ، ويعلم أنه قادر قبل أن يعلم أنه ( مريد ) ، ونحو ذلك .
[7] فما من أحد من الناس إلا وهو يعلم شيئا ولا يعلم الآخر ، فالامتياز في علم الناس بين ما يعلم وما لا يعلم مما لا يمكن عاقلا المنازعة فيه ، إلا أن يكون النزاع لفظيا ، أو يتكلم الإنسان بما لا يتصور حقيقة قوله .
فهذا الوجه من الامتياز متفق على إثباته ، كما أن الأول متفق على نفيه . وأما الامتياز في نفس الأمر من غير قبول تفرق وانفصال ، كتميز العلم عن القدرة ، وتميز الذات عن الصفة ، وتميز السمع عن البصر ، وتميز ما يرى منه عما لا يرى ، ونحو ذلك ، وثبوت صفات له وتنوعها ، فهذا مما تنفيه
الجهمية نفاة الصفات ، وهو مما أنكر السلف والأئمة نفيهم له ، كما ذكر ذلك أئمة المسلمين المصنفين في الرد على
الجهمية ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251كالإمام أحمد رضي الله عنه في رده على
الجهمية [8] ، وغيره من أئمة المسلمين .
nindex.php?page=treesubj&link=28717_28712ولكن ( ليس ) [9] في أئمة المسلمين من قال : إن [ ص: 569 ] الرب مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة . وقد تنازع النظار في الأجسام المشهودة : هل هي مركبة من جواهر أو من أجزاء ، أو لا من هذا ولا من هذا ؟ على ثلاثة أقوال .
فمن قال : إن المخلوق ليس مركبا لا من هذا ولا هذا ، فالخالق أولى أن لا يكون مركبا .
ومن قال : إن المخلوق مركب ، فهو بين أمرين : إما أن ينفي التركيب عن الرب سبحانه ، ويحتاج إلى دليل ، وأدلتهم على ذلك ضعيفة . وإما أن يثبت تركيبه من هذا وهذا ، وهو قول سخيف . فكلا القولين - النفي والإثبات - ضعيف لضعف الأصل الذي اشتركوا فيه .
وهذا الموضع من محارات كثير من العقلاء في صفات المخلوق والخالق . مثال ذلك الثمرة ، كالتفاحة والأترجة
[10] لها لون وطعم وريح ، وهذه صفات قائمة بها ، ولها أيضا حركة . فمن النظار من قال : صفاتها ليست أمورا زائدة على ذاتها ، ويجعل لفظ " التفاحة " يتناول هذا كله . ومنهم من يقول : بل صفاتها زائدة على ذاتها .
وهذا في التحقيق نزاع لفظي ، فإن عنى بذاتها ما يتصوره الذهن من الذات المجردة ، فلا ريب أن صفاتها زائدة على هذه الذات . وإن عنى بذاتها الذات الموجودة في الخارج ، فتلك متصفة بالصفات ، لا تكون ذاتا موجودة في الخارج إلا إذا كانت متصفة بصفاتها اللازمة لها .
[ ص: 570 ] فتقديرها في الخارج منفكة عن الصفات - حتى يقال : هل الصفات زائدة عليها أو ليست زائدة - تقدير ممتنع ، والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع .
وقد حكي عن طائفة من النظار
كعبد الرحمن بن كيسان الأصم [11] وغيره أنهم أنكروا وجود الأعراض في الخارج ، حتى أنكروا وجود الحركة . والأشبه - والله أعلم - أنه لم ينقل قولهم على وجهه ، فإن هؤلاء أعقل من أن يقولوا ذلك
[12] وعبد الرحمن الأصم - وإن كان معتزليا - فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم ، وله تفسير . ومن تلاميذه
إبراهيم بن [ ص: 571 ] إسماعيل بن علية ،
ولإبراهيم مناظرات في الفقه وأصوله مع
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيره .
[13] وفي الجملة فهؤلاء من أذكياء الناس وأحدهم أذهانا ، وإذا ضلوا في مسألة لم يلزم أن يضلوا في الأمور الظاهرة التي لا تخفى على الصبيان .
وهذا كما أن الأطباء وأهل الهندسة من أذكياء الناس ، ولهم علوم صحيحة طبية وحسابية ، وإن كان ضل منهم طوائف في الأمور الإلهية ، فذلك لا يستلزم أن يضلوا في الأمور الواضحة في الطب والحساب .
[ ص: 572 ] فمن حكى عن مثل
أرسطو أو
جالينوس أو غيرهما قولا في الطبيعيات
[14] ظاهر البطلان ، علم أنه غلط في النقل عليه ، وإن لم يكن تعمد الكذب عليه .
بل
محمد بن زكريا الرازي مع إلحاده في الإلهيات والنبوات ، ونصرته لقول
ديمقراطيس والحرنانيين [15] القائلين بالقدماء الخمسة - مع أنه من أضعف أقوال العالم وفيه من التناقض والفساد ما هو مذكور في موضع آخر ، كشرح الأصبهانية والكلام على معجزات الأنبياء والرد على من قال : إنها قوى نفسانية المسماة بالصفدية وغير ذلك - فالرجل من أعلم الناس بالطب
[16] حتى قيل له :
جالينوس الإسلام ، فمن ذكر عنه في الطب قولا يظهر فساده لمبتدئ الأطباء ، كان غالطا عليه .
[ ص: 573 ] وكذلك
عبد الرحمن بن كيسان وأمثاله لا ينكر أن يكون للثمرة طعما ولونا وريحا ، وهذا من المراد بالأعراض في اصطلاح النظار ، فكيف يقال : إنهم أنكروا الأعراض ؟
بل إذا قالوا : إن الأعراض ليست صفات
[17] زائدة على الجسم بمعنى أن الجسم اسم للذات التي قامت بها الأعراض ، فالعرض داخل في مسمى الجسم ، وهذا مما يمكن أن يقوله هؤلاء وأمثالهم .
ثم رأيت
أبا الحسين [18] البصري - وهو أحذق متأخري
المعتزلة - قد ذكر ( في ) " تصفيح الأدلة والأجوبة "
[19] هذا المعنى ، وذكر أن مرادهم هو
[ ص: 574 ] هذا المعنى ، وذكر من كلامهم ما يبين ذلك ، فاختار هو هذا ، وأثبت الأحوال التي يسميها
[20] غيره أعراضا زائدة ، وعاد جمهور النزاع إلى أمور لفظية .
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنا نحن نميز بين الطعم واللون والريح بحواسنا ، فنجد الطعم بالفم ، ونرى اللون بالعين ، ونشم الرائحة بالأنف ، كما نسمع الصوت بالأذن ، فهنا الآلات التي تحس بها هذه الأعراض مختلفة فينا ، يظهر اختلافها في أنفسها لاختلاف الآلات التي تدركها ، بخلاف ما يقوم بأنفسنا من علم وإرادة وحب ، فإنا لا نميز بين هذا وهذا بحواس مختلفة ، وإن كان أدلة العلم بذلك مختلفة ، فالأدلة قد تكون أمورا منفصلة عن المستدل .
فهذا مما يقع به الفرق بين الصفات المدركة بالحس والصفات المعلومة بالعقل ، وإلا فمعلوم أن اتصاف الأترجة والتفاحة بصفاتها المتنوعة هو أمر ثابت في نفسه سواء وجدنا ذلك أو لم نجده . ومعلوم أن طعمها نفسه ليس هو لونها ، ولونها ليس هو ريحها ، وهذه كلها صفات قائمة بها متنوعة بحقائقها ، وإن كان محلها الموصوف بها واحدا .
ثم الصفات نوعان : نوع لا يشترط فيه الحياة : كالطعم واللون والريح ، ونوع يشترط فيه الحياة : كالعلم والإرادة والسمع والبصر .
فأما الأول فحكمه لا يتعدى محله ، فلا يتصف باللون والريح والطعم إلا ما قام به ذلك .
[ ص: 575 ] وأما هذا الثاني فقد تنازع فيه النظار لما رأوا أن الإنسان يوصف بأنه عالم قادر مريد ، والعلم والإرادة لم تقم بعقبه ولا بظهره ، وإنما هو قائم بقلبه .
فمنهم من قال : الأعراض المشروطة بالحياة يتعدى حكمها محلها ، فإذا قامت بجزء من الجملة وصف بها سائر الجملة ، كما يقول ذلك من يقوله من
المعتزلة وغيرهم .
ومنهم من يقول : بل الموصوف بذلك جزء منفرد في القلب .
ومنهم من يقول : بل حكمها لا يتعدى محلها ، وإنه بكل جزء من أجزاء البدن حياة وعلم وقدرة .
ومن هؤلاء من يقول : لا يشترط في قيام هذه الأعراض بالجوهر الفرد البنية المخصوصة ، كما يقوله :
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري ومن اتبعه من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد وغيرهم ، وهؤلاء بنوا هذا على ثبوت الجوهر الفرد ، وهو أساس ضعيف ، فإن القول به باطل ، كما قد بسط في موضعه .
ثم من المتفلسفة المشائين من ادعى أن محل العلم من الإنسان ما لا ينقسم ، ومعنى ذلك عندهم أن النفس الناطقة لا يتميز منها شيء عن شيء ، ولا يتحرك ولا يسكن ، ولا يصعد ولا ينزل ، ولا يدخل في البدن ولا غيره من العالم ولا يخرج منه ، ولا يقرب من شيء ولا يبعد منه .
ثم منهم من يدعي أنها لا تعلم الجزئيات وإنما تعلم الكليات ، كما يذكر ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وغيره . وكان أعظم ما اعتمدوا عليه من المعلومات ما لا ينقسم ، فالعلم به لا ينقسم ، لأن العلم مطابق للمعلوم ،
[ ص: 576 ] فمحل العلم لا ينقسم ، لأن ما ينقسم لا يحل في منقسم .
[21] \ 1975 . وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع ، وبين بعض ما في هذا الكلام من الغلط ، مع أن هذا عندهم هو البرهان القاطع الذي لا يمكن نقضه . وقواهم على ذلك أن بعض من عارضهم
كأبي حامد والرازي لم يجيبوا عنه بجواب شاف ، بل
أبو حامد قد يوافقهم على ذلك .
ومنشأ النزاع إثبات ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه في الوجود الخارجي .
فيقال لهم : لا نسلم أن في الوجود ما لا يتميز منه شيء عن شيء . فإذا قالوا : النقطة ؟ قيل لهم : النقطة والخط والسطح الواحد والاثنان والثلاثة : قد يراد بها هذه المقادير مجردة عن موصوفاتها ، وقد يراد بها ما اتصف بها ( من )
[22] المقدرات في الخارج .
فإذا أريد الأول فلا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان ، فليس في الخارج عدد مجرد عن المعدود ، ولا مقدار مجرد عن المقدر
[23] : لا نقطة ولا خط ولا سطح ولا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة بل الموجودات
[ ص: 577 ] المعدودات كالدرهم والحبة والإنسان ، والمقدرات كالأرض التي لها طول وعرض وعمق ، فما من سطح إلا وله حقيقة يتميز بها عن غيره من السطوح ، كما يتميز التراب عن الماء ، وكما يتميز سطوح كل جسم عن سطوح الآخر .
وإن قالوا : ما لا ينقسم هي العقول المجردة التي تثبتها الفلاسفة .
كان دون إثبات هذه خرط القتاد
[24] ، فلا يتحقق منها إلا ما يقدر في الأذهان ، لا ما يوجد في الأعيان .
والملائكة التي وصفتها الرسل وأمروا بالإيمان بها ، بينها وبين هذه المجردات من أنواع الفرقان ، ما لا يخفى إلا على العميان ، كما قد بسط في غير هذا المكان .
وإن أرادوا بما لا ينقسم واجب الوجود ، وقالوا : إنه واحد لا ينقسم ولا يتجزأ .
قيل : إن أردتم بذلك نفي صفاته ، وأنه ليس لله حياة وعلم وقدرة تقوم به ، فقد علم أن جمهور المسلمين وسائر أهل الملل ، بل وسائر عقلاء بني
آدم من جميع الطوائف يخالفونكم في هذا .
وهذا أول المسألة ، وأنتم - وكل عاقل - قد يعلم بعض صفاته دون بعض ، والمعلوم هو غير ما ليس بمعلوم ، فكيف ينكر أن يكون له معان متعددة ؟
وأدلة إثبات الصانع كثيرة ، ليس هذا موضعها ، فلم قلتم بإمكان وجود مثل هذا في الخارج ، فضلا عن تحقيق وجوده ؟
[ ص: 578 ] وقد عرف فساد حجتكم على
nindex.php?page=treesubj&link=28713نفي الصفات ، وإن سميتم ذلك توحيدا ، فحينئذ الواحد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء لم يعلم ثبوته في الخارج حتى يحتج على أن العلم به كذلك ، والعالم به كذلك .
وقد احتج بعضهم على وجود ما لا ينقسم - بالمعنى الذي أرادوه - بأن قالوا : الوجود في الخارج : إما بسيط وإما مركب ، والمركب لا بد له من بسيط .
وهذا ممنوع ، فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب من هذا البسيط الذي أثبتموه ، وإنما الموجود الأجسام البسيطة ، وهو ما يشبه بعضه بعضا ، كالماء والنار والهواء ونحو ذلك .
وأما ما لا يتميز منه شيء عن شيء ، فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب منه ، بل لا موجود إلا ما يتميز منه شيء عن شيء .
وإذا قالوا : فذلك الشيء هو البسيط .
قيل لهم : وذلك إنما يكون بعضا من غيره ، لا يعلم مفردا ألبتة ، كما لا يوجد مفردا ألبتة .
ثم يقال : من المعلوم أن بدن الإنسان ينقسم بالمعنى الذي يذكرونه ويتميز منه شيء عن شيء ، والحياة والحس سار في بدنه ، فما المانع أن تقوم الحياة والعلم بالروح ، كما قامت الحياة والحس بالبدن ، وإن كان البدن منقسما عندكم ؟
وإن قلتم : الحياة والحس منقسم عندكم ؟
قيل : إن أردتم بذلك أنه يمكن كون البعض حيا حساسا مع مفارقة البعض .
[ ص: 579 ] قيل : هذا لا يطرد ، بل قد يذهب بعضه وتبقى الحياة والحس في بعضه ، وقد تذهب الحياة والحس عن بعضه بذهاب ذلك عن البعض ، كما في القلب .
وعلى التقديرين فالحياة والحس يتسع باتساع محله ، والأرواح متنوعة ، وما يقوم بها من العلم والإرادة وغير ذلك يتنوع بتنوعها ، فما عظم من الموصوفات عظمت صفاتها ، وما كان دونها كانت صفاته دونه .
وأيضا ، فالوهم عندهم قوة جسمانية قائمة بالجسم ، مع أنها تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس ، كالصداقة والعداوة ، وذلك المعنى مما لا ينقسم بانقسام محله عندهم .
وأيضا ، فقوة الإبصار التي في العين قائمة بجسم ينقسم عندهم ، مع أنها لا تنقسم بانقسام محلها ، بل الاتصال شرط فيها ، فلو فسد بعض محلها فسدت ، ولا يبقى بعضها مع فساد أي بعض كان ، فما كان المانع أن يكون قيام الحياة والعلم والقدرة والإرادة ببعض الروح - إذا قيل : يتميز بعضها عن بعض - مشروطا بقيامه بالبعض الآخر ، بحيث يكون الاتصال شرطا في هذا الاتصاف ؟
[25] كما يوجد ذلك في الحياة والحس في بعض البدن ، لا تقوم به الحياة والحس إلا إذا كان متصلا نوعا من الاتصال .
وبسط الكلام في ( كثير من )
[26] هذه الأمور يتعلق بالكلام على روح الإنسان ، التي تسمى النفس الناطقة ، وعلى اتصافها بصفاتها ، فبهذا
[ ص: 580 ] يستعين الإنسان على الكلام في الصفات الإلهية ، وبذلك يستعين على ما يرد عليه من الشبهات ، وقد تكلمنا على ذلك في مواضع .
والناس قد تنازعوا في
nindex.php?page=treesubj&link=32886روح الإنسان : هل هي جسم مركب من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، أو جوهر لا يقبل الصعود والنزول والقرب والبعد ونحو ذلك ؟ وكلا القولين خطأ ، كما ذكر في غير هذا الموضع ؟
[27] وأضعف من ذلك قول من يجعلها عرضا من أعراض البدن كالحياة والعلم .
وقد دخل في الأول قول من قال : إن الإنسان ليس هو إلا هذه الجمل المشاهدة ، وهي البدن ، ومن قال : إنها الريح التي تتردد في مخاريق البدن ; ومن قال : إنها الدم ، ومن قال : إنها البخار اللطيف الذي يجري في مجاري الدم ، وهو المسمى بالروح عند الأطباء ; ومن قال غير ذلك .
والثاني : قول من يقول بذلك من المتفلسفة ومن وافقهم من النظار .
وقد ينظر الإنسان في كتب كثيرة من المصنفة في هذه الأمور ، ويجد في المصنف أقوالا متعددة ، والقول الصواب لا يجده فيها .
ومن تبحر في المعارف تبين له خلاصة الأمور ، وتحقيقها : هو ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، في جميع هذه الأمور ، لكن إطالة القول في هذا الباب ، لا يناسب هذا
[ ص: 581 ] الكتاب ، وإنما المقصود التنبيه على أن ما تشنع به
الرافضة على أهل السنة من ضعيف الأقوال هم به أخلق ، والضلال بهم أعلق ، ولكن لا بد من جمل يهتدى بها إلى الصواب .
وباب التوحيد والأسماء والصفات مما عظم فيه ضلال من عدل عما جاء به الرسول إلى ما يظنه من المعقول ، وليست المعقولات الصريحة إلا بعض ما أخبر به الرسول ، يعرف ذلك من خبر هذا وهذا .
( فَصْلٌ )
وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ
[1] أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18267_29442الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، لَكِنْ قَدْ يُنَازِعُونَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ : هَلِ النَّقْصُ إِثْبَاتُهَا أَوْ نَفْيُهَا ؟ وَفِي طَرِيقِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ .
فَهَذَا الْمُصَنِّفُ
nindex.php?page=treesubj&link=28833_28712_28713الْإِمَامِيُّ اعْتَمَدَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنِ النَّقَائِصِ عَلَى نَفْيِ كَوْنِهِ جِسْمًا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ [ ص: 564 ] هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا هِيَ مَأْثُورَةٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهَا يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ ، لَكِنْ يَدَّعُونَ أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ .
فَقَالَ لَهُمُ الْقَادِحُونَ فِي طَرِيقِهِمْ : هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ لِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ كَوْنَهُ جِسْمًا ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ صِفَةٍ يَقُولُ الْقَائِلُ : إِنَّهَا تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ
[2] ، إِلَّا وَالْقَوْلُ فِيمَا أَثْبَتَهُ كَالْقَوْلِ فِيمَا نَفَاهُ .
وَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَنْفِيَ الْمَوْجُودَ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ صِفَةٍ قَالَ فِيهَا : إِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِجِسْمٍ ، أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا أَثْبَتَهُ . وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ صِفَةَ نَقْصٍ ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ تَعَالَى عَنِ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالنَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْأَجْسَامِ ; قِيلَ لَهُ : وَمَا تُثْبِتُهُ أَنْتَ مِنَ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْأَحْكَامِ أَوِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْأَجْسَامِ .
وَلِهَذَا كَانَ مَنْ رَدَّ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ عَلَى الْوَاصِفِينَ لِلَّهِ بِالْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضٌ ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَمِدِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِيمَا يُنْكِرُونَهُ عَلَى
الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ - مِمَّنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ كَالْبُخْلِ وَالْفَقْرِ وَاللُّغُوبِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ .
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَسْلُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَ حَتَّى مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ يَقُولُونَ :
[ ص: 565 ] إِنَّ كَوْنَ الرَّبِّ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقْصِ مُتَّصِفًا بِالْكَمَالِ مِمَّا لَا نَعْرِفُهُ بِالْعَقْلِ بَلْ بِالسَّمْعِ ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي اسْتَنَدَ إِلَيْهِ .
وَهَؤُلَاءِ لَا يَبْقَى عِنْدَهُمْ طَرِيقٌ عَقْلِيٌّ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ إِنَّمَا يَنْفَعُ فِي الْجُمَلِ دُونَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي هِيَ
[3] مَحَلُّ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إِلَى بَعْضِ النُّصُوصِ ، وَدَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَى صِفَاتِ الْكَمَالِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ وَأَقْطَعُ مِنْ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً .
وَإِذَا عُرِفَ
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28712ضَعْفُ أَصُولِ النُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ فِيمَا يُنَزِّهُونَ عَنْهُ الرَّبَّ ، فَهَؤُلَاءِ
الرَّافِضَةُ طَافُوا عَلَى أَبْوَابِ الْمَذَاهِبِ ، وَفَازُوا بِأَخَسِّ الْمَطَالِبِ ، فَعُمْدَتُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى عَقْلِيَّاتٍ بَاطِلَةٍ ، وَفِي السَّمْعِيَّاتِ عَلَى سَمْعِيَّاتٍ بَاطِلَةٍ . وَلِهَذَا كَانُوا مِنْ أَضْعَفِ النَّاسِ حُجَّةً وَأَضْيَقِهِمْ مَحَجَّةً ، وَكَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ مُتَّهَمِينَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ ، كَمَا يُتَّهَمُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَكَابِرِهِمْ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْبَابَ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ مِثْلِ التَّرْكِيبِ وَالِانْقِسَامِ وَالتَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْقَائِلُ إِذَا قَالَ : إِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَجَزِّئٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ وَلَا مُرَكَّبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَهَذَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ ، فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّهُ مُرَكَّبٌ بِنَفْسِهِ أَوْ رَكَّبَهُ غَيْرُهُ ، وَلَا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ يَقْبَلُ
[ ص: 566 ] التَّفْرِيقَ وَالتَّجْزِئَةَ وَالتَّبْعِيضَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ ، كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَجْسَامِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ خَلَقَ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ فَأَنْشَأَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، لَمْ تَكُنْ يَدُ الْإِنْسَانِ وَرِجْلُهُ وَرَأْسُهُ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَ بَيْنَهَا
[4] ، بَلْ خَلَقَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ جُمْلَةً ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَفْرِيقُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالتَّجْزِئَةَ وَالتَّبْعِيضَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . فَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، لَا أَعْلَمُ مُسْلِمًا لَهُ قَوْلٌ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
وَإِنْ قَالَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّرْكِيبِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ، وَبِالِانْقِسَامِ وَالتَّجْزِئَةِ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْأَجْزَاءِ ، فَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : إِنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُشَارَ إِلَيْهَا ، كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ وَالتُّرَابِ ، لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً
[5] لَا هَذَا التَّرْكِيبَ وَلَا هَذَا التَّرْكِيبَ ، وَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ !
فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ ، الَّذِي هُوَ عَالٍ عَلَى غَيْرِهِ كَعُلُوِّ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ ، إِذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : إِنَّهُ لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ - وَهِيَ الْجَوَاهِرُ الْمُنْفَرِدَةُ - عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا ، وَلَا مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ، كَانَ مَنْعُهُمْ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَهَذَا أَوْلَى .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا ، فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ -
كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ - يَنْفُونَ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى هَذَا التَّرْكِيبَ . وَلَكِنْ
[ ص: 567 ] كَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ، فَقَدْ يَقُولُ : إِنَّهُ مُرَكَّبٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَبِهَذَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَ هَذَا التَّرْكِيبَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ، فَهُمْ فِي الْخَالِقِ أَشَدُّ إِنْكَارًا .
وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْمَخْلُوقَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبُ ، فَهَؤُلَاءِ يَحْتَاجُونَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنِ الرَّبِّ إِلَى بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ يُبَيِّنُ امْتِنَاعَ مِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ مُنَازِعِيهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِثُبُوتِ مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ تَرْكِيبًا ، يَقُولُونَ : إِنَّهُ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى نَفْيِهِ ، بَلِ الْمُقَدِّمَاتُ الَّتِي وَافَقُونَا عَلَيْهَا مِنْ إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الشَّاهِدِ ، يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الْغَائِبِ ، كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ .
وَبَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذَا مُنَازَعَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَلَفْظِيَّةٌ وَلُغَوِيَّةٌ ، قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ ، مَعَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَتَانِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28707وَتَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ بِالْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ ، كَمَا بُيِّنَ مِنْ غَيْرِ سُلُوكِ الشُّبُهَاتِ الْفَاسِدَةِ .
وَأَمَّا إِذَا قِيلَ : الْمُرَادُ بِالِانْقِسَامِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَنْ يَتَمَيَّزَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ ، مِثْلُ تَمَيُّزِ عِلْمِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ ، أَوْ تَمَيُّزِ ذَاتِهِ عَنْ صِفَاتِهِ ، أَوْ تَمَيُّزِ مَا يُرَى مِنْهُ عَمَّا لَا يُرَى ، كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 103 ] ، قَالُوا : لَا تُحِيطُ بِهِ . وَقِيلَ
nindex.php?page=showalam&ids=11لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) قَالَ : أَلَسْتَ تَرَى
[ ص: 568 ] السَّمَاءَ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : أَفَكُلَّهَا تَرَى ؟ قَالَ : لَا
[6] ; فَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ ، أَيْ لَا يُحَاطُ بِهِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَهَذَا الِامْتِيَازُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : امْتِيَازٌ فِي عِلْمِ الْعَالِمِ مِنَّا بِأَنْ نَعْلَمَ شَيْئًا وَلَا نَعْلَمَ الْآخَرَ ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يُمْكِنُ الْعَاقِلُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ بَعْدَ فَهْمِهِ ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ نِزَاعًا ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ ( مُرِيدٌ ) ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
[7] فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ الْآخَرَ ، فَالِامْتِيَازُ فِي عِلْمِ النَّاسِ بَيْنَ مَا يُعْلَمُ وَمَا لَا يُعْلَمُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَاقِلًا الْمُنَازَعَةُ فِيهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا ، أَوْ يَتَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَتَصَوَّرُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ .
فَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ الِامْتِيَازِ مُتَّفَقٌ عَلَى إِثْبَاتِهِ ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَى نَفْيِهِ . وَأَمَّا الِامْتِيَازُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ تَفَرُّقٍ وَانْفِصَالٍ ، كَتَمَيُّزِ الْعِلْمِ عَنِ الْقُدْرَةِ ، وَتَمَيُّزِ الذَّاتِ عَنِ الصِّفَةِ ، وَتَمَيُّزِ السَّمْعِ عَنِ الْبَصَرِ ، وَتَمَيُّزِ مَا يُرَى مِنْهُ عَمَّا لَا يُرَى ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَثُبُوتِ صِفَاتٍ لَهُ وَتَنَوُّعِهَا ، فَهَذَا مِمَّا تَنْفِيهِ
الْجَهْمِيَّةُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ ، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ نَفْيَهُمْ لَهُ ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّدِّ عَلَى
الْجَهْمِيَّةِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12251كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَدِّهِ عَلَى
الْجَهْمِيَّةِ [8] ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
nindex.php?page=treesubj&link=28717_28712وَلَكِنْ ( لَيْسَ ) [9] فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ : إِنَّ [ ص: 569 ] الرَّبَّ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ وَلَا مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ . وَقَدْ تَنَازَعَ النُّظَّارُ فِي الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ : هَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَاهِرَ أَوْ مِنْ أَجْزَاءٍ ، أَوْ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
فَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْمَخْلُوقَ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا ، فَالْخَالِقُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُرَكَّبًا .
وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْمَخْلُوقَ مُرَكَّبٌ ، فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَنْفِيَ التَّرْكِيبَ عَنِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ ، وَأَدِلَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ . وَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ تَرْكِيبَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا ، وَهُوَ قَوْلٌ سَخِيفٌ . فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ - النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ - ضَعِيفٌ لِضَعْفِ الْأَصْلِ الَّذِي اشْتَرَكُوا فِيهِ .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَحَارَاتِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ . مِثَالُ ذَلِكَ الثَّمَرَةُ ، كَالتُّفَّاحَةِ وَالْأُتْرُجَّةِ
[10] لَهَا لَوْنٌ وَطَعْمٌ وَرِيحٌ ، وَهَذِهِ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهَا ، وَلَهَا أَيْضًا حَرَكَةٌ . فَمِنَ النُّظَّارِ مَنْ قَالَ : صِفَاتُهَا لَيْسَتْ أُمُورًا زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهَا ، وَيَجْعَلُ لَفْظَ " التُّفَّاحَةِ " يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ صِفَاتُهَا زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهَا .
وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ، فَإِنْ عَنَى بِذَاتِهَا مَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ مِنَ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ صِفَاتِهَا زَائِدَةٌ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ . وَإِنْ عَنَى بِذَاتِهَا الذَّاتَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ ، فَتِلْكَ مُتَّصِفَةٌ بِالصِّفَاتِ ، لَا تَكُونُ ذَاتًا مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَّصِفَةً بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا .
[ ص: 570 ] فَتَقْدِيرُهَا فِي الْخَارِجِ مُنْفَكَّةً عَنِ الصِّفَاتِ - حَتَّى يُقَالَ : هَلِ الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا أَوْ لَيْسَتْ زَائِدَةً - تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ ، وَالتَّقْدِيرُ الْمُمْتَنِعُ قَدْ يَلْزَمُهُ حُكْمٌ مُمْتَنِعٌ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ النُّظَّارِ
كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَصَمِّ [11] وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْأَعْرَاضِ فِي الْخَارِجِ ، حَتَّى أَنْكَرُوا وُجُودَ الْحَرَكَةِ . وَالْأَشْبَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ قَوْلُهُمْ عَلَى وَجْهِهِ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ
[12] وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَصَمُّ - وَإِنْ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا - فَإِنَّهُ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ . وَمِنْ تَلَامِيذِهِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ [ ص: 571 ] إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ ،
وَلِإِبْرَاهِيمَ مُنَاظَرَاتٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
[13] وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ وَأَحَدِّهِمْ أَذْهَانًا ، وَإِذَا ضَلُّوا فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَضِلُّوا فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى الصِّبْيَانِ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَطِبَّاءَ وَأَهْلَ الْهَنْدَسَةِ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ ، وَلَهُمْ عُلُومٌ صَحِيحَةٌ طِبِّيَّةٌ وَحِسَابِيَّةٌ ، وَإِنْ كَانَ ضَلَّ مِنْهُمْ طَوَائِفُ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ ، فَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَضِلُّوا فِي الْأُمُورِ الْوَاضِحَةِ فِي الطِّبِّ وَالْحِسَابِ .
[ ص: 572 ] فَمَنْ حَكَى عَنْ مِثْلِ
أَرِسْطُو أَوْ
جَالِينُوسَ أَوْ غَيْرِهِمَا قَوْلًا فِي الطَّبِيعِيَّاتِ
[14] ظَاهِرَ الْبُطْلَانِ ، عُلِمَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي النَّقْلِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَيْهِ .
بَلْ
مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِيُّ مَعَ إِلْحَادِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ ، وَنُصْرَتِهِ لِقَوْلِ
دِيمُقْرَاطِيسَ وَالْحَرْنَانِيِّينَ [15] الْقَائِلِينَ بِالْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ - مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَضْعَفِ أَقْوَالِ الْعَالِمِ وَفِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، كَشَرْحِ الْأَصْبَهَانِيَّةِ وَالْكَلَامِ عَلَى مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ : إِنَّهَا قُوًى نَفْسَانِيَّةٌ الْمُسَمَّاةُ بِالصَّفَدِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَالرَّجُلُ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالطِّبِّ
[16] حَتَّى قِيلَ لَهُ :
جَالِينُوسُ الْإِسْلَامِ ، فَمَنْ ذَكَرَ عَنْهُ فِي الطِّبِّ قَوْلًا يَظْهَرُ فَسَادُهُ لِمُبْتَدِئِ الْأَطِبَّاءِ ، كَانَ غَالِطًا عَلَيْهِ .
[ ص: 573 ] وَكَذَلِكَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ وَأَمْثَالُهُ لَا يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلثَّمَرَةِ طَعْمًا وَلَوْنًا وَرِيحًا ، وَهَذَا مِنَ الْمُرَادِ بِالْأَعْرَاضِ فِي اصْطِلَاحِ النُّظَّارِ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْأَعْرَاضَ ؟
بَلْ إِذَا قَالُوا : إِنَّ الْأَعْرَاضَ لَيْسَتْ صِفَاتٍ
[17] زَائِدَةً عَلَى الْجِسْمِ بِمَعْنَى أَنَّ الْجِسْمَ اسْمٌ لِلَذَّاتِ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْأَعْرَاضُ ، فَالْعَرَضُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْجِسْمِ ، وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَهُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ .
ثُمَّ رَأَيْتُ
أَبَا الْحُسَيْنِ [18] الْبَصْرِيَّ - وَهُوَ أَحَذَقُ مُتَأَخِّرِي
الْمُعْتَزِلَةِ - قَدْ ذَكَرَ ( فِي ) " تَصْفِيحِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَجْوِبَةِ "
[19] هَذَا الْمَعْنَى ، وَذَكَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ هُوَ
[ ص: 574 ] هَذَا الْمَعْنَى ، وَذَكَرَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ ، فَاخْتَارَ هُوَ هَذَا ، وَأَثْبَتَ الْأَحْوَالَ الَّتِي يُسَمِّيهَا
[20] غَيْرُهُ أَعْرَاضًا زَائِدَةً ، وَعَادَ جُمْهُورُ النِّزَاعِ إِلَى أُمُورٍ لَفْظِيَّةٍ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّا نَحْنُ نُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ بِحَوَاسِّنَا ، فَنَجِدُ الطَّعْمَ بِالْفَمِ ، وَنَرَى اللَّوْنَ بِالْعَيْنِ ، وَنَشُمُّ الرَّائِحَةَ بِالْأَنْفِ ، كَمَا نَسْمَعُ الصَّوْتَ بِالْأُذُنِ ، فَهُنَا الْآلَاتُ الَّتِي تُحَسُّ بِهَا هَذِهِ الْأَعْرَاضُ مُخْتَلِفَةٌ فِينَا ، يَظْهَرُ اخْتِلَافُهَا فِي أَنْفُسِهَا لِاخْتِلَافِ الْآلَاتِ الَّتِي تُدْرِكُهَا ، بِخِلَافِ مَا يَقُومُ بِأَنْفُسِنَا مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ ، فَإِنَّا لَا نُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بِحَوَاسَّ مُخْتَلِفَةٍ ، وَإِنْ كَانَ أَدِلَّةُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مُخْتَلِفَةً ، فَالْأَدِلَّةُ قَدْ تَكُونُ أُمُورًا مُنْفَصِلَةً عَنِ الْمُسْتَدِلِّ .
فَهَذَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ وَالصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّصَافَ الْأُتْرُجَّةِ وَالتُّفَّاحَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُتَنَوِّعَةِ هُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ وَجَدْنَا ذَلِكَ أَوْ لَمْ نَجِدْهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَعْمَهَا نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ لَوْنَهَا ، وَلَوْنَهَا لَيْسَ هُوَ رِيحَهَا ، وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهَا مُتَنَوِّعَةٌ بِحَقَائِقِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهَا الْمَوْصُوفُ بِهَا وَاحِدًا .
ثُمَّ الصِّفَاتُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَيَاةُ : كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ ، وَنَوْعٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَيَاةُ : كَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَحُكْمُهُ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ ، فَلَا يَتَّصِفُ بِاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالطَّعْمِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ ذَلِكَ .
[ ص: 575 ] وَأَمَّا هَذَا الثَّانِي فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ النُّظَّارُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ مُرِيدٌ ، وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ لَمْ تَقُمْ بِعَقِبِهِ وَلَا بِظَهْرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِقَلْبِهِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْأَعْرَاضُ الْمَشْرُوطَةُ بِالْحَيَاةِ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا مَحَلَّهَا ، فَإِذَا قَامَتْ بِجُزْءٍ مِنَ الْجُمْلَةِ وُصِفَ بِهَا سَائِرُ الْجُمْلَةِ ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلِ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ جُزْءٌ مُنْفَرِدٌ فِي الْقَلْبِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ حُكْمُهَا لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهَا ، وَإِنَّهُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يُشْتَرَطُ فِي قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ الْبِنْيَةُ الْمَخْصُوصَةُ ، كَمَا يَقُولُهُ :
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ ، وَهَؤُلَاءِ بَنَوْا هَذَا عَلَى ثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ ، وَهُوَ أَسَاسٌ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِهِ بَاطِلٌ ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ .
ثُمَّ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ مَنِ ادَّعَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ مِنَ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَنْقَسِمُ ، وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ ، وَلَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَسْكُنُ ، وَلَا يَصْعَدُ وَلَا يَنْزِلُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَدَنِ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْعَالَمِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَلَا يَقْرُبُ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يَبْعُدُ مِنْهُ .
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَإِنَّمَا تَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ ، كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ . وَكَانَ أَعْظَمُ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ مَا لَا يَنْقَسِمُ ، فَالْعِلْمُ بِهِ لَا يَنْقَسِمُ ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مُطَابِقٌ لِلْمَعْلُومِ ،
[ ص: 576 ] فَمَحَلُّ الْعِلْمِ لَا يَنْقَسِمُ ، لِأَنَّ مَا يَنْقَسِمُ لَا يَحِلُّ فِي مُنْقَسِمٍ .
[21] \ 1975 . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَبُيِّنَ بَعْضُ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْغَلَطِ ، مَعَ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ . وَقَوَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ عَارَضَهُمْ
كَأَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِيِّ لَمْ يُجِيبُوا عَنْهُ بِجَوَابٍ شَافٍ ، بَلْ
أَبُو حَامِدٍ قَدْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَمَنْشَأُ النِّزَاعِ إِثْبَاتُ مَا لَا يَنْقَسِمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادُوهُ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ . فَإِذَا قَالُوا : النُّقْطَةُ ؟ قِيلَ لَهُمْ : النُّقْطَةُ وَالْخَطُّ وَالسَّطْحُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ : قَدْ يُرَادُ بِهَا هَذِهِ الْمَقَادِيرُ مُجَرَّدَةً عَنْ مَوْصُوفَاتِهَا ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا اتُّصِفَ بِهَا ( مِنَ )
[22] الْمُقَدَّرَاتِ فِي الْخَارِجِ .
فَإِذَا أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَلَا وُجُودَ لَهَا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ ، فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ عَدَدٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمَعْدُودِ ، وَلَا مِقْدَارٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمُقَدَّرِ
[23] : لَا نُقْطَةٌ وَلَا خَطٌّ وَلَا سَطْحٌ وَلَا وَاحِدٌ وَلَا اثْنَانِ وَلَا ثَلَاثَةٌ بَلِ الْمَوْجُودَاتُ
[ ص: 577 ] الْمَعْدُودَاتُ كَالدِّرْهَمِ وَالْحَبَّةِ وَالْإِنْسَانِ ، وَالْمُقَدَّرَاتِ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَهَا طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ ، فَمَا مِنْ سَطْحٍ إِلَّا وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السُّطُوحِ ، كَمَا يَتَمَيَّزُ التُّرَابُ عَنِ الْمَاءِ ، وَكَمَا يَتَمَيَّزُ سُطُوحُ كُلِّ جِسْمٍ عَنْ سُطُوحِ الْآخَرِ .
وَإِنْ قَالُوا : مَا لَا يَنْقَسِمُ هِيَ الْعُقُولُ الْمُجَرَّدَةُ الَّتِي تُثْبِتُهَا الْفَلَاسِفَةُ .
كَانَ دُونَ إِثْبَاتِ هَذِهِ خَرْطُ الْقَتَادِ
[24] ، فَلَا يُتَحَقَّقُ مِنْهَا إِلَّا مَا يُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ ، لَا مَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ .
وَالْمَلَائِكَةُ الَّتِي وَصَفَتْهَا الرُّسُلُ وَأَمَرُوا بِالْإِيمَانِ بِهَا ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْمُجَرَّدَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُرْقَانِ ، مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ .
وَإِنْ أَرَادُوا بِمَا لَا يَنْقَسِمُ وَاجِبَ الْوُجُودِ ، وَقَالُوا : إِنَّهُ وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ .
قِيلَ : إِنْ أَرَدْتُمْ بِذَلِكَ نَفْيَ صِفَاتِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ تَقُومُ بِهِ ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ ، بَلْ وَسَائِرَ عُقَلَاءِ بَنِي
آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ يُخَالِفُونَكُمْ فِي هَذَا .
وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَنْتُمْ - وَكُلُّ عَاقِلٍ - قَدْ يُعْلَمُ بَعْضُ صِفَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ ، وَالْمَعْلُومُ هُوَ غَيْرُ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ ، فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ ؟
وَأَدِلَّةُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ كَثِيرَةٌ ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِإِمْكَانِ وُجُودِ مِثْلِ هَذَا فِي الْخَارِجِ ، فَضْلًا عَنْ تَحْقِيقِ وَجُودِهِ ؟
[ ص: 578 ] وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ حُجَّتِكُمْ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28713نَفْيِ الصِّفَاتِ ، وَإِنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ تَوْحِيدًا ، فَحِينَئِذٍ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ فِي الْخَارِجِ حَتَّى يُحْتَجَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ كَذَلِكَ ، وَالْعَالِمَ بِهِ كَذَلِكَ .
وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى وُجُودِ مَا لَا يَنْقَسِمُ - بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادُوهُ - بِأَنْ قَالُوا : الْوُجُودُ فِي الْخَارِجِ : إِمَّا بَسِيطٌ وَإِمَّا مُرَكَّبٌ ، وَالْمُرَكَّبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَسِيطٍ .
وَهَذَا مَمْنُوعٌ ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا الْبَسِيطِ الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ الْأَجْسَامُ الْبَسِيطَةُ ، وَهُوَ مَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، كَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْهَوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُ ، بَلْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا مَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ .
وَإِذَا قَالُوا : فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الْبَسِيطُ .
قِيلَ لَهُمْ : وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْضًا مِنْ غَيْرِهِ ، لَا يُعْلَمُ مُفْرَدًا أَلْبَتَّةَ ، كَمَا لَا يُوجَدُ مُفْرَدًا أَلْبَتَّةَ .
ثُمَّ يُقَالُ : مِنَ الْمَعْلُومُ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ يَنْقَسِمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَذْكُرُونَهُ وَيَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ ، وَالْحَيَاةُ وَالْحِسُّ سَارٍ فِي بَدَنِهِ ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَقُومَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ بِالرُّوحِ ، كَمَا قَامَتِ الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ بِالْبَدَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَدَنُ مُنْقَسِمًا عِنْدَكُمْ ؟
وَإِنْ قُلْتُمُ : الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ مُنْقَسِمٌ عِنْدَكُمْ ؟
قِيلَ : إِنْ أَرَدْتُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ كَوْنُ الْبَعْضِ حَيًّا حَسَّاسًا مَعَ مُفَارَقَةِ الْبَعْضِ .
[ ص: 579 ] قِيلَ : هَذَا لَا يَطَّرِدُ ، بَلْ قَدْ يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَتَبْقَى الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ فِي بَعْضِهِ ، وَقَدْ تَذْهَبُ الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ عَنْ بَعْضِهِ بِذَهَابِ ذَلِكَ عَنِ الْبَعْضِ ، كَمَا فِي الْقَلْبِ .
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحَيَاةُ وَالْحِسُّ يَتَّسِعُ بِاتِّسَاعِ مَحَلِّهِ ، وَالْأَرْوَاحُ مُتَنَوِّعَةٌ ، وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِهَا ، فَمَا عَظُمَ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ عَظُمَتْ صِفَاتُهَا ، وَمَا كَانَ دُونَهَا كَانَتْ صِفَاتُهُ دُونَهُ .
وَأَيْضًا ، فَالْوَهْمُ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ جُسْمَانِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِ ، مَعَ أَنَّهَا تُدْرِكُ فِي الْمَحْسُوسِ مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ ، كَالصَّدَاقَةِ وَالْعَدَاوَةِ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ مَحَلِّهِ عِنْدَهُمْ .
وَأَيْضًا ، فَقُوَّةُ الْإِبْصَارِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ قَائِمَةٌ بِجِسْمٍ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ ، مَعَ أَنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ مَحَلِّهَا ، بَلِ الِاتِّصَالُ شَرْطٌ فِيهَا ، فَلَوْ فَسَدَ بَعْضُ مَحَلِّهَا فَسَدَتْ ، وَلَا يَبْقَى بَعْضُهَا مَعَ فَسَادِ أَيِّ بَعْضٍ كَانَ ، فَمَا كَانَ الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِبَعْضِ الرُّوحِ - إِذَا قِيلَ : يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ - مَشْرُوطًا بِقِيَامِهِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ ، بِحَيْثُ يَكُونُ الِاتِّصَالُ شَرْطًا فِي هَذَا الِاتِّصَافِ ؟
[25] كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ وَالْحِسِّ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ ، لَا تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا نَوْعًا مِنَ الِاتِّصَالِ .
وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي ( كَثِيرٍ مِنْ )
[26] هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ ، الَّتِي تُسَمَّى النَّفْسَ النَّاطِقَةَ ، وَعَلَى اتِّصَافِهَا بِصِفَاتِهَا ، فَبِهَذَا
[ ص: 580 ] يَسْتَعِينُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْكَلَامِ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَبِذَلِكَ يَسْتَعِينُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ .
وَالنَّاسُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=32886رُوحِ الْإِنْسَانِ : هَلْ هِيَ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ ، أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ ، أَوْ جَوْهَرٌ لَا يَقْبَلُ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ وَالْقُرْبَ وَالْبُعْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؟ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ ، كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؟
[27] وَأَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهَا عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ .
وَقَدْ دَخَلَ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ إِلَّا هَذِهِ الْجُمَلَ الْمُشَاهَدَةَ ، وَهِيَ الْبَدَنُ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا الرِّيحُ الَّتِي تَتَرَدَّدُ فِي مَخَارِيقِ الْبَدَنِ ; وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا الدَّمُ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّهَا الْبُخَارُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَجْرِي فِي مَجَارِي الدَّمِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالرُّوحِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ ; وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ النُّظَّارِ .
وَقَدْ يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ، وَيَجِدُ فِي الْمُصَنَّفِ أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً ، وَالْقَوْلُ الصَّوَابُ لَا يَجِدُهُ فِيهَا .
وَمَنْ تَبَحَّرَ فِي الْمَعَارِفِ تَبَيَّنَ لَهُ خُلَاصَةُ الْأُمُورِ ، وَتَحْقِيقُهَا : هُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ، فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ ، لَكِنَّ إِطَالَةَ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ ، لَا يُنَاسِبُ هَذَا
[ ص: 581 ] الْكِتَابَ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا تُشَنِّعُ بِهِ
الرَّافِضَةُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ ضَعِيفِ الْأَقْوَالِ هُمْ بِهِ أَخْلَقُ ، وَالضَّلَالُ بِهِمْ أَعْلَقُ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ جُمَلٍ يُهْتَدَى بِهَا إِلَى الصَّوَابِ .
وَبَابُ التَّوْحِيدِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِمَّا عَظُمَ فِيهِ ضَلَالُ مَنْ عَدَلَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى مَا يَظُنُّهُ مِنَ الْمَعْقُولِ ، وَلَيْسَتِ الْمَعْقُولَاتُ الصَّرِيحَةُ إِلَّا بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ، يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ خَبَرَ هَذَا وَهَذَا .