وبيان هذا : بالوجه الخامس
[1] [ وهو ]
[2] أن يقال : هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من
الشيعة ، وبعضهم من غلاة النساك ،
وداود الجواربي [3] . ( * قال
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري في " المقالات "
[4] : وقال
داود الجواربي [5] * )
[6] nindex.php?page=showalam&ids=17131ومقاتل بن سليمان : إن الله جسم ، وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان
[7] : لحم
[8] ودم وشعر وعظم ، له
[ ص: 618 ] جوارح
[9] وأعضاء من يد ورجل
[10] ولسان
[11] ورأس وعينين
[12] وهو مع هذا
[13] لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره
[14] . وحكي عن
داود الجواربي [15] أنه كان يقول : إنه
[16] أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك " .
" وقال
هشام بن سالم الجواليقي : إن الله على صورة [ الإنسان ]
[17] ، وأنكر أن يكون لحما ودما ، وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا
[18] ، وإنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان : سمعه غير بصره
[19] ، وكذلك سائر حواسه : له يد ورجل [ وأذن ]
[20] وعين وأنف وفم ، وإن له وفرة سوداء " .
قلت : أما
داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة . وأما
مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله .
nindex.php?page=showalam&ids=13711والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب
المعتزلة ، وفيهم انحراف على
[21] مقاتل بن سليمان ،
[ ص: 619 ] فلعلهم زادوا في النقل عنه ، أو نقلوا عنه ، أو نقلوا عن غير ثقة ، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد
[22] . وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : من أراد التفسير فهو عيال على
مقاتل ، ومن أراد الفقه فهو عيال على
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة [23] .
nindex.php?page=showalam&ids=17131ومقاتل بن سليمان ، وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث - بخلاف
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل بن حيان [24] فإنه ثقة - لكن لا ريب
[25] في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه
[26] ، كما أن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء
[ ص: 620 ] وأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه ، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه ، وهي كذب عليه قطعا ، مثل مسألة الخنزير البري ونحوها ، وما يبعد
[27] أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب .
وهذا الإمامي
[28] نقل النقل المذكور عن
nindex.php?page=showalam&ids=15853داود الطائي ، وهذا جهل منه ، أو من نقله [ هو ]
[29] عنه ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=15853داود الطائي كان رجلا صالحا زاهدا عابدا
[ ص: 621 ] فقيها من
أهل الكوفة ، في زمن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري وشريك nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى [30] وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة ، وأخباره وسيرته مشهورة عند
[31] العلماء
[32] ، ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل ، وإنما القائل لذلك
داود الجواربي ، فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه
الجواربي بالطائي [33] ، إن لم يكن
[34] الغلط في النسخة التي أحضرت [ إلي ] ،
وداود الجواربي أظنه
[35] [ ص: 622 ] كان من
أهل البصرة متأخرا عن هذا ، وقصته معروفة
[36] .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري [37] : " وفي الأمة
[38] قوم ينتحلون النسك ، يزعمون أنه جائز على الله تعالى
[39] الحلول في الأجسام
[40] ، وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا : لا ندري ، لعله ، ربما هو
[41] .
ومنهم
nindex.php?page=treesubj&link=28725من يقول : إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال [42] ، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن .
ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا
[43] ، ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض : لحم ودم على صورة الإنسان ، له ما للإنسان من الجوارح .
وكان من الصوفية رجل يعرف
بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ، ويغتم ويحزن إذا عصوه .
[ ص: 623 ] وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة
[44] تزول عنهم العبادات ، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم - من الزنا وغيره - مباحات لهم .
وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يروا الله
[45] ، ويأكلوا
[46] من ثمار الجنة ، ويعانقوا
[47] الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين .
ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم [ إلى ]
[48] أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين " .
[ قلت : هذه المقالات التي
[49] حكاها
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري - وذكروا أعظم منها - موجودة في الناس قبل هذا الزمان . وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ، ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد . ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام ، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال ، لما في ذلك من اللذة له ، فيتخذ إلهه هواه ، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف . ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة . بل يقولون : إنهم يرونه في صور مختلفة . ومنهم من يقول : إن المواضع المخضرة خطا عليها ، وإنما اخضرت من وطئه عليها ، وفي
[ ص: 624 ] ذلك حكايات متعددة يطول وصفها ، وأما القول بالإباحة وحل المحرمات - أو بعضها - للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول ، فإن هذا قول أئمة
الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير
الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ، ولهذا يضرب بهم المثل فيقال : فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع . وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام ، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء ، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم ، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر ]
[50] .
ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها - موجودة
[51] في الشيعة .
وكثير من النساك يظنون
[52] أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم ، وسبب ذلك أنه
[53] يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار
[54] ما يغيب [ به ]
[55] عن حسه الظاهر ، حتى يظن أن ذلك [ هو ] شيء
[56] يراه بعينه الظاهرة ، وإنما هو موجود في قلبه .
ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة
[57] التي يراها خطاب الربوبية
[ ص: 625 ] ويخاطبها أيضا بذلك ، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه ، وإنما هو موجود في نفسه ، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله . فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج .
[ وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ، ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول : أنا ربك . ومنهم من يقول : أنا نبيك ، وهذا قد وقع لغير واحد . ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ، ويكون المخاطب له جنيا ، كما قد وقع لغير واحد . لكن بسط ( الكلام )
[58] على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج ، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه ، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ]
[59] .
وكثير من الجهال أهل الحال
[60] وغيرهم يقولون : إنهم يرون الله عيانا في الدنيا ، وأنه يخطوا خطوات
[61] .
[ وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم : كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده ، وقول بعضهم : إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله ، وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ ، لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى
الشيعة من
الإسماعيلية والغلاة من
[ ص: 626 ] النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالات ، فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس
الشيعة ما هو أخبث منها ]
[62] .
وأهل الوحدة
[63] القائلون بوحدة الوجود ، كأصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=12816ابن عربي وابن سبعين [64] [65] يدعون أنهم يشاهدون الله دائما ، فإن [ عندهم ]
[66] مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد ، إذ كانت ذاته
[67] الوجود المطلق الساري في الكائنات .
فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ، ولكن المقالات الموجودة في
الشيعة أشنع وأقبح ، كما هو موجود في الغالية من
النصيرية وأمثالهم ، ولهذا كان
النصيرية يعظمون القائلين بوحدة [ الوجود ]
[68] . وكان
التلمساني [69] شيخ القائلين بالوحدة [ الذي شرح " مواقف "
[ ص: 627 ] النفري [70] . وصنف غير ذلك ]
[71] قد ذهب إلى
النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا ، وحدثني نقيب الأشراف عنه
[72] أنه قال : قلت له : أنت نصيري ؟ قال :
نصير جزء مني
[73] ;
والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم .
وَبَيَانُ هَذَا : بِالْوَجْهِ الْخَامِسِ
[1] [ وَهُوَ ]
[2] أَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ حَكَاهَا النَّاسُ عَنْ شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ أَكْثَرُهُمْ مِنَ
الشِّيعَةِ ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ غُلَاةِ النُّسَّاكِ ،
وَدَاوُدَ الْجَوَارِبِيِّ [3] . ( * قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيُّ فِي " الْمَقَالَاتِ "
[4] : وَقَالَ
دَاوُدُ الْجَوَارِبِيُّ [5] * )
[6] nindex.php?page=showalam&ids=17131وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ : إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ ، وَأَنَّهُ جُثَّةٌ وَأَعْضَاءٌ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ
[7] : لَحْمٌ
[8] وَدَمٌ وَشَعْرٌ وَعَظْمٌ ، لَهُ
[ ص: 618 ] جَوَارِحُ
[9] وَأَعْضَاءٌ مِنْ يَدٍ وَرِجْلٍ
[10] وَلِسَانٍ
[11] وَرَأْسٍ وَعَيْنَيْنِ
[12] وَهُوَ مَعَ هَذَا
[13] لَا يُشْبِهُ غَيْرَهُ وَلَا يُشْبِهُهُ غَيْرُهُ
[14] . وَحُكِيَ عَنْ
دَاوُدَ الْجَوَارِبِيِّ [15] أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِنَّهُ
[16] أَجْوَفُ مِنْ فِيهِ إِلَى صَدْرِهِ وَمُصْمَتٌ مَا سِوَى ذَلِكَ " .
" وَقَالَ
هِشَامُ بْنُ سَالِمٍ الْجَوَالِيقِيُّ : إِنَّ اللَّهَ عَلَى صُورَةِ [ الْإِنْسَانِ ]
[17] ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَحْمًا وَدَمًا ، وَإِنَّهُ نُورٌ سَاطِعٌ يَتَلَأْلَأُ بَيَاضًا
[18] ، وَإِنَّهُ ذُو حَوَاسَّ خَمْسٍ كَحَوَاسِّ الْإِنْسَانِ : سَمْعُهُ غَيْرُ بَصَرِهِ
[19] ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ حَوَاسِّهِ : لَهُ يَدٌ وَرِجْلٌ [ وَأُذُنٌ ]
[20] وَعَيْنٌ وَأَنْفٌ وَفَمٌ ، وَإِنَّ لَهُ وَفْرَةً سَوْدَاءَ " .
قُلْتُ : أَمَّا
دَاوُدُ الْجَوَارِبِيُّ فَقَدْ عُرِفَ عَنْهُ الْقَوْلُ الْمُنْكَرُ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ . وَأَمَّا
مُقَاتِلٌ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ .
nindex.php?page=showalam&ids=13711وَالْأَشْعَرِيُّ يَنْقُلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مِنْ كُتُبِ
الْمُعْتَزِلَةِ ، وَفِيهِمُ انْحِرَافٌ عَلَى
[21] مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ ،
[ ص: 619 ] فَلَعَلَّهُمْ زَادُوا فِي النَّقْلِ عَنْهُ ، أَوْ نَقْلُوا عَنْهُ ، أَوْ نَقَلُوا عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ ، وَإِلَّا فَمَا أَظُنُّهُ يَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ
[22] . وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : مَنْ أَرَادَ التَّفْسِيرَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى
مُقَاتِلٍ ، وَمَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ [23] .
nindex.php?page=showalam&ids=17131وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْحَدِيثِ - بِخِلَافِ
nindex.php?page=showalam&ids=17132مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ [24] فَإِنَّهُ ثِقَةٌ - لَكِنْ لَا رَيْبَ
[25] فِي عِلْمِهِ بِالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ وَاطِّلَاعِهِ
[26] ، كَمَا أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ خَالَفُوهُ فِي أَشْيَاءَ
[ ص: 620 ] وَأَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي فِقْهِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْهُ أَشْيَاءَ يَقْصِدُونَ بِهَا الشَّنَاعَةَ عَلَيْهِ ، وَهِيَ كَذِبٌ عَلَيْهِ قَطْعًا ، مِثْلَ مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ الْبَرِّيِّ وَنَحْوِهَا ، وَمَا يَبْعُدُ
[27] أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ عَنْ مُقَاتِلٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَهَذَا الْإِمَامِيُّ
[28] نَقَلَ النَّقْلَ الْمَذْكُورَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15853دَاوُدَ الطَّائِيِّ ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ ، أَوْ مِنْ نَقْلِهِ [ هُوَ ]
[29] عَنْهُ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=15853دَاوُدَ الطَّائِيَّ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا زَاهِدًا عَابِدًا
[ ص: 621 ] فَقِيهًا مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ ، فِي زَمَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=16004وَالثَّوْرِيِّ وَشَرِيكٍ nindex.php?page=showalam&ids=12526وَابْنِ أَبِي لَيْلَى [30] وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ ثُمَّ انْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ ، وَأَخْبَارُهُ وَسِيرَتُهُ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ
[31] الْعُلَمَاءِ
[32] ، وَلَمْ يَقُلِ الرَّجُلُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْبَاطِلِ ، وَإِنَّمَا الْقَائِلُ لِذَلِكَ
دَاوُدُ الْجَوَارِبِيُّ ، فَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى شُيُوخِهِ
الْجَوَارِبِيُّ بِالطَّائِيِّ [33] ، إِنْ لَمْ يَكُنِ
[34] الْغَلَطُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي أُحْضِرَتْ [ إِلَيَّ ] ،
وَدَاوُدُ الْجَوَارِبِيُّ أَظُنُّهُ
[35] [ ص: 622 ] كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ هَذَا ، وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ
[36] .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيُّ [37] : " وَفِي الْأُمَّةِ
[38] قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ النُّسُكَ ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
[39] الْحُلُولُ فِي الْأَجْسَامِ
[40] ، وَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا يَسْتَحْسِنُونَهُ قَالُوا : لَا نَدْرِي ، لَعَلَّهُ ، رُبَّمَا هُوَ
[41] .
وَمِنْهُمْ
nindex.php?page=treesubj&link=28725مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ يَرَى اللَّهَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ [42] ، فَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ أَحْسَنَ رَأَى مَعْبُودَهُ أَحْسَنَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَانَقَةَ وَالْمُلَامَسَةَ وَالْمُجَالَسَةَ فِي الدُّنْيَا
[43] ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذُو أَعْضَاءٍ وَجَوَارِحَ وَأَبْعَاضٍ : لَحْمٍ وَدَمٍ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ ، لَهُ مَا لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْجَوَارِحِ .
وَكَانَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ رَجُلٌ يُعْرَفُ
بِأَبِي شُعَيْبٍ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُسَرُّ وَيَفْرَحُ بِطَاعَةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَيَغْتَمُّ وَيَحْزَنُ إِذَا عَصَوْهُ .
[ ص: 623 ] وَفِي النُّسَّاكِ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَبْلُغُ بِهِمْ إِلَى مَنْزِلَةٍ
[44] تَزُولُ عَنْهُمُ الْعِبَادَاتُ ، وَتَكُونُ الْأَشْيَاءُ الْمَحْظُورَاتُ عَلَى غَيْرِهِمْ - مِنَ الزِّنَا وَغَيْرِهِ - مُبَاحَاتٍ لَهُمْ .
وَفِيهِمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَبْلُغُ بِهِمْ إِلَى أَنْ يَرَوُا اللَّهَ
[45] ، وَيَأْكُلُوا
[46] مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ، وَيُعَانِقُوا
[47] الْحُورَ الْعِينَ فِي الدُّنْيَا وَيُحَارِبُوا الشَّيَاطِينَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعِبَادَةَ تَبْلُغُ بِهِمْ [ إِلَى ]
[48] أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ " .
[ قُلْتُ : هَذِهِ الْمَقَالَاتُ الَّتِي
[49] حَكَاهَا
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيُّ - وَذَكَرُوا أَعْظَمَ مِنْهَا - مَوْجُودَةٌ فِي النَّاسِ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ . وَفِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِهِ فِي الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ ، وَيَقُولُ إِنَّهُ بِمُشَاهَدَةِ الْأَمْرَدِ يُشَاهِدُ مَعْبُودَهُ أَوْ صِفَاتِ مَعْبُودِهِ أَوْ مَظَاهِرَ جَمَالِهِ ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْجُدُ لِلْأَمْرَدِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الْعَامِّ ، لَكِنَّهُ يَتَعَبَّدُ بِمَظَاهِرِ الْجَمَالِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ اللَّذَّةِ لَهُ ، فَيَتَّخِذُ إِلَهَهُ هَوَاهُ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يَرَى اللَّهَ مُطْلَقًا وَلَا يُعَيِّنُ الصُّورَةَ الْجَمِيلَةَ . بَلْ يَقُولُونَ : إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْمَوَاضِعَ الْمُخْضَرَّةَ خَطَا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا اخْضَرَّتْ مِنْ وَطْئِهِ عَلَيْهَا ، وَفِي
[ ص: 624 ] ذَلِكَ حِكَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَطُولُ وَصْفُهَا ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ وَحِلِّ الْمُحَرَّمَاتِ - أَوْ بَعْضِهَا - لِلْكَامِلِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ فَهَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ
الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَغَيْرِ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ ، وَلِهَذَا يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ فَيُقَالُ : فُلَانٌ يَسْتَحِلُّ دَمِي كَاسْتِحْلَالِ الْفَلَاسِفَةِ مَحْظُورَاتِ الشَّرَائِعِ . وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُفَضِّلُ نَفْسَهُ أَوْ مَتْبُوعَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي الْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ ]
[50] .
فَفِي الْجُمْلَةِ هَذِهِ مَقَالَاتٌ مُنْكَرَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهِيَ وَأَشْنَعُ مِنْهَا - مَوْجُودَةٌ
[51] فِي الشِّيعَةِ .
وَكَثِيرٌ مِنَ النُّسَّاكِ يَظُنُّونَ
[52] أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا بِأَعْيُنِهِمْ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ
[53] يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمْ فِي قَلْبِهِ بِسَبَبِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ مِنَ الْأَنْوَارِ
[54] مَا يَغِيبُ [ بِهِ ]
[55] عَنْ حِسِّهِ الظَّاهِرِ ، حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ [ هُوَ ] شَيْءٌ
[56] يَرَاهُ بِعَيْنِهِ الظَّاهِرَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي قَلْبِهِ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تُخَاطِبُهُ تِلْكَ الصُّورَةُ
[57] الَّتِي يَرَاهَا خِطَابَ الرُّبُوبِيَّةِ
[ ص: 625 ] وَيُخَاطِبُهَا أَيْضًا بِذَلِكَ ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي نَفْسِهِ ، كَمَا يَحْصُلُ لِلنَّائِمِ إِذَا رَأَى رَبَّهُ فِي صُورَةٍ بِحَسَبِ حَالِهِ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ تَقَعُ كَثِيرًا فِي زَمَانِنَا وَقَبْلِهِ ، وَيَقَعُ الْغَلَطُ مِنْهُمْ حَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ .
[ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَمَثَّلُ لَهُ الشَّيْطَانُ ، وَيَرَى نُورًا أَوْ عَرْشًا أَوْ نُورًا عَلَى الْعَرْشِ وَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَنَا نَبِيُّكَ ، وَهَذَا قَدْ وَقَعَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَخَاطُبِهِ الْهَوَاتِفُ بِخِطَابٍ عَلَى لِسَانِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ الْمُخَاطِبُ لَهُ جِنِّيًّا ، كَمَا قَدْ وَقَعَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ . لَكِنَّ بَسْطَ ( الْكَلَامِ )
[58] عَلَى مَا يُرَى وَيُسْمَعُ وَمَا هُوَ فِي النَّفْسِ وَالْخَارِجِ ، وَتَمْيِيزِ حَقِّهِ مِنْ بَاطِلِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ]
[59] .
وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ أَهْلِ الْحَالِ
[60] وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : إِنَّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ عِيَانًا فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَّهُ يَخْطُوَا خَطَوَاتٍ
[61] .
[ وَقَدْ يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَالَاتِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : كُلُّ رِزْقٍ لَا يَرْزُقُنِيهِ الشَّيْخُ فُلَانٍ لَا أُرِيدُهُ ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إِنَّ شَيْخَهُمْ هُوَ شَيْخُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ الْغُلَاةِ فِي الشُّيُوخِ ، لَكِنْ يُوجَدُ فِي جِنْسِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى
الشِّيعَةِ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْغُلَاةِ مِنَ
[ ص: 626 ] النُّصَيْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ غُلُوًّا وَكُفْرًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ ، فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ مَقَالَةٌ خَبِيثَةٌ إِلَّا وَفِي جِنْسِ
الشِّيعَةِ مَا هُوَ أَخْبَثُ مِنْهَا ]
[62] .
وَأَهْلُ الْوَحْدَةِ
[63] الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ ، كَأَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=12816ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ [64] [65] يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ اللَّهَ دَائِمًا ، فَإِنَّ [ عِنْدَهُمْ ]
[66] مُشَاهَدَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ، إِذْ كَانَتْ ذَاتُهُ
[67] الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ السَّارِيَ فِي الْكَائِنَاتِ .
فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ وَأَمْثَالُهَا مَوْجُودَةٌ فِي النَّاسِ ، وَلَكِنَّ الْمَقَالَاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي
الشِّيعَةِ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْغَالِيَةِ مِنَ
النُّصَيْرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ ، وَلِهَذَا كَانَ
النُّصَيْرِيَّةُ يُعَظِّمُونَ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ [ الْوُجُودِ ]
[68] . وَكَانَ
التِّلِمْسَانِيُّ [69] شَيْخُ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ [ الَّذِي شَرَحَ " مَوَاقِفَ "
[ ص: 627 ] النِّفَّرِيِّ [70] . وَصَنَّفَ غَيْرَ ذَلِكَ ]
[71] قَدْ ذَهَبَ إِلَى
النُّصَيْرِيَّةِ وَصَنَّفَ لَهُمْ كِتَابًا وَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ جِدًّا ، وَحَدَّثَنِي نَقِيبُ الْأَشْرَافِ عَنْهُ
[72] أَنَّهُ قَالَ : قُلْتُ لَهُ : أَنْتَ نُصَيْرِيٌّ ؟ قَالَ :
نُصَيْرٌ جُزْءٌ مِنِّي
[73] ;
والنُّصَيْرِيَّةُ يُعَظِّمُونَهُ غَايَةَ التَّعْظِيمِ .