وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28446الأمور التي يستقل بها العقل فمثل الأمور الطبيعية ، مثل كون هذا المرض ينفع فيه الدواء الفلاني ، فإن مثل هذا يعلم
[1] بالتجربة والقياس وتقليد الأطباء الذين علموا ذلك بقياس أو تجربة . وكذلك مسائل الحساب والهندسة ونحو ذلك ، هذا مما
[2] يعلم بالعقل . وكذلك مسألة الجوهر الفرد ، وتماثل الأجسام أو اختلافها ، وجواز بقاء الأعراض وامتناع بقائها ; فهذه ونحوها تعلم بالعقل .
وإذا كان كذلك فكون الرجل مؤمنا وكافرا وعدلا وفاسقا هو من المسائل الشرعية لا من المسائل العقلية ، فكيف يكون من خالف ما جاء به الرسول ليس كافرا ، ومن خالف ما ادعى غيره أنه معلوم بعقله كافرا ؟
nindex.php?page=treesubj&link=22290وهل يكفر أحد بالخطأ في مسائل الحساب والطب ودقيق الكلام ؟ .
فإن قيل : هؤلاء لا يكفرون كل من خالف مسألة عقلية ، لكن يكفرون من
nindex.php?page=treesubj&link=22290خالف المسائل العقلية التي يعلم بها صدق الرسول ; فإن العلم بصدق الرسول مبني عليها
[3] : [ على مسائل معينة ]
[4] ، فإذا أخطأ فيها لم يكن عالما بصدق الرسول فيكون كافرا .
[ ص: 94 ] قيل : تصديق الرسول ليس مبنيا على مسائل معينة من مسائل النزاع ، بل ما جعله أهل الكلام المحدث أصلا للعلم بصدق الرسول ، كقول من قال من
المعتزلة والجهمية : إنه لا يعلم صدق الرسول إلا بأن يعلم أن العالم حادث ، ولا يعلم ذلك إلا بأن يعلم
[5] أن الأجسام محدثة ، ولا يعلم ذلك إلا بالعلم
[6] بأنها لا تنفك من الحوادث : إما الأعراض مطلقا ، وإما الأكوان
[7] ، وإما الحركات ، ولا يعلم حدوثها
[8] حتى يعلم امتناع حوادث لا أول لها ، ولا يعلم أنه صادق حتى يعلم أن الرب غني ، ولا يعلم غناه حتى يعلم أنه ليس بجسم .
ونحو ذلك من الأمور التي تزعم طائفة من أهل الكلام أنها أصول لتصديق الرسول لا يعلم صدقه بدونها ، هي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه لم يكن يجعل إيمان الناس موقوفا عليها ، بل ولا دعا الناس إليها ، ولا ذكرت في كتاب ولا سنة ، ولا ذكرها أحد من الصحابة ، لكن الأصول التي بها يعلم
[9] صدق الرسول مذكورة في القرآن ، وهي غير هذه ، كما قد بين
[10] في غير هذا الموضع .
وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها ، وأن معرفتها شرط في الإيمان ، أو واجبة على الأعيان هم من أهل
[ ص: 95 ] البدع عند السلف والأئمة ، وجمهور العلماء يعلمون أن أصولهم بدعة في الشريعة . لكن كثيرا من الناس يظن أنها صحيحة في العقل ، وأما الحذاق من الأئمة ومن اتبعهم فيعلمون أنها باطلة في العقل ، مبتدعة في الشرع ، وأنها تناقض ما جاء به الرسول .
وحينئذ فإن كان
nindex.php?page=treesubj&link=22290الخطأ في المسائل العقلية التي يقال إنها أصول الدين ، كفرا
[11] ، فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبتدعة في الشرع هم الكفار لا من خالفهم ، وإن لم يكن الخطأ فيها كفرا ، فلا يكفر من خالفهم فيها فثبت أنه ليس كافرا في حكم الله ورسوله على التقديرين .
ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين ، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه ويكفرون من خالفهم فيها ، ويستحلون دمه كفعل
الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم . وأهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ ، وإن كان مخالفا لهم مكفرا لهم مستحلا لدمائهم ، كما لم تكفر الصحابة
الخوارج ، مع تكفيرهم
nindex.php?page=showalam&ids=7لعثمان nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي ومن والاهما ، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم .
وكلام هؤلاء المتكلمين في هذه المسائل بالتصويب والتخطئة ، والتأثيم ونفيه
[12] ، والتكفير ونفيه ، لكونهم بنوا على القولين المتقدمين : قول
القدرية الذين يجعلون كل مستدل قادرا على معرفة الحق ، فيعذب كل من
[ ص: 96 ] لم يعرفه ، وقول
الجهمية الجبرية الذين يقولون : لا قدرة للعبد على شيء أصلا ، بل الله يعذب بمحض المشيئة ، فيعذب من لم يفعل ذنبا قط ، وينعم من كفر وفسق ، وقد وافقهم على ذلك كثير من المتأخرين ، وهؤلاء يقولون : يجوز أن يعذب الأطفال والمجانين وإن لم يفعلوا ذنبا قط ، ثم منهم من يجزم بعذاب
nindex.php?page=treesubj&link=28638أطفال الكفار في الآخرة ، ومنهم من يجوزه ويقول : لا أدري ما يقع ، وهؤلاء يجوزون أن يغفر لأفسق أهل القبلة بلا سبب أصلا ، ويعذب الرجل الصالح على السيئة الصغيرة ، وإن كانت له حسنات أمثال الجبال بلا سبب أصلا ، بل بمحض المشيئة .
وأصل الطائفتين أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح . لكن هؤلاء
الجهمية يقولون : إنه في كل حادث يرجح بلا مرجح ، وأولئك
القدرية والمعتزلة والكرامية ، وطوائف غيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وغيرهم يقولون : أصل الإحداث والإبداع كان ترجيحا بلا مرجح ، وأما بعد ذلك فقد خلق أسبابا وحكما علق الحوادث بها .
واختلفت
القدرية والجهمية الجبرية في الظلم . فقالت
القدرية : الظلم في حقه هو ما نعرفه من ظلم الناس بعضهم بعضا . فإذا قيل : إنه خالق أفعال العباد وإنه مريد لكل ما وقع ، وقيل مع ذلك : إنه يعذب العاصي ، كان هذا ظلما كظلمنا ، وسموا أنفسهم العدلية . وقالت
الجهمية : الظلم في حقه هو ما يمتنع وجوده ، فأما كل ما يمكن وجوده فليس بظلم ; فإن الظلم إما مخالفة أمر من تجب طاعته ، وإما التصرف في ملك الغير بغير
[ ص: 97 ] إذنه ؛ فالإنسان يوصف بالظلم لأنه مخالف لأمر ربه ، ولأنه قد
[13] يتصرف في ملك غيره بغير إذنه . والرب تعالى ليس فوقه آمر ، ولا لغيره ملك ، بل إنما يتصرف في ملكه ، فكل ما يمكن فليس بظلم ؛ بل إذا نعم
فرعون وأبا جهل وأمثالهما ممن كفر به وعصاه ، وعذب
موسى ومحمدا ممن آمن به وأطاعه فهو مثل العكس ، الجميع بالنسبة إليه سواء . ولكن لما أخبر أنه ينعم المطيعين وأنه يعذب العصاة صار ذلك معلوم الوقوع لخبره الصادق ، لا لسبب اقتضى ذلك . والأعمال علامات على الثواب والعقاب ، ليست أسبابا .
فهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=15658جهم وأصحابه ، ومن وافقه
nindex.php?page=showalam&ids=13711كالأشعري ومن وافقه من أتباع الفقهاء الأربعة والصوفية وغيرهم . ولهذا جوز هؤلاء أن يعذب العاجز عن معرفة الحق ولو اجتهد ، فليس عندهم في نفس الأمر أسباب للحوادث ولا حكم ، ولا في الأفعال صفات لأجلها كانت مأمورا بها ومنهيا عنها ، بل عندهم يمتنع أن يكون في خلقه وأمره ( لام كي ) .
وأما
القدرية فيثبتون له شريعة فيما يجب عليه ويحرم عليه بالقياس على عباده . وقد تكلمنا على قول الفريقين في مواضع ، وذكرنا فصلا في ذلك في هذا الكتاب فيما تقدم ، لما تكلمنا على ما نسبه هذا الرافضي إلى جميع
[14] أهل السنة من قول هؤلاء
الجهمية الجبرية ، وبينا أن هذه المسألة لا تتعلق بمسألة الإمامة والتفضيل ، بل من
الشيعة من يقول بالجبر والقدر ، وفي أهل السنة من يقول بهذا وبهذا .
[ ص: 98 ] والمقصود هنا أن نبين أن الكلام في تصويب المتنازعين : مصيبين أو مخطئين ، مثابين أو معاقبين ، مؤمنين أو كفارا - هو فرع عن هذا الأصل العام الشامل لهذه المسائل وغيرها .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28446الْأُمُورُ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا الْعَقْلُ فَمِثْلُ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ ، مِثْلَ كَوْنِ هَذَا الْمَرَضِ يَنْفَعُ فِيهِ الدَّوَاءُ الْفُلَانِيُّ ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يُعْلَمُ
[1] بِالتَّجْرِبَةِ وَالْقِيَاسِ وَتَقْلِيدِ الْأَطِبَّاءِ الَّذِينَ عَلِمُوا ذَلِكَ بِقِيَاسٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ . وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، هَذَا مِمَّا
[2] يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ . وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ ، وَتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ أَوِ اخْتِلَافِهَا ، وَجَوَازِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَامْتِنَاعِ بَقَائِهَا ; فَهَذِهِ وَنَحْوُهَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَوْنُ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا وَعَدْلًا وَفَاسِقًا هُوَ مِنَ الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ لَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَيْسَ كَافِرًا ، وَمَنْ خَالَفَ مَا ادَّعَى غَيْرُهُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِعَقْلِهِ كَافِرًا ؟
nindex.php?page=treesubj&link=22290وَهَلْ يَكْفُرُ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ فِي مَسَائِلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَدَقِيقِ الْكَلَامِ ؟ .
فَإِنْ قِيلَ : هَؤُلَاءِ لَا يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَسْأَلَةً عَقْلِيَّةً ، لَكِنْ يُكَفِّرُونَ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=22290خَالَفَ الْمَسَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ الرَّسُولِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا
[3] : [ عَلَى مَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ ]
[4] ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَيَكُونُ كَافِرًا .
[ ص: 94 ] قِيلَ : تَصْدِيقُ الرَّسُولِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى مَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ ، بَلْ مَا جَعَلَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ أَصْلًا لِلْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ : إِنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُ الرَّسُولِ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ
[5] أَنَّ الْأَجْسَامَ مُحْدَثَةٌ ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْعِلْمِ
[6] بِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ مِنَ الْحَوَادِثِ : إِمَّا الْأَعْرَاضُ مُطْلَقًا ، وَإِمَّا الْأَكْوَانُ
[7] ، وَإِمَّا الْحَرَكَاتُ ، وَلَا يُعْلَمُ حُدُوثُهَا
[8] حَتَّى يُعْلَمَ امْتِنَاعُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ الرَّبَّ غَنِيٌّ ، وَلَا يُعْلَمَ غِنَاهُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَزْعُمُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنَّهَا أُصُولٌ لِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ بِدُونِهَا ، هِيَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ إِيمَانَ النَّاسِ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا ، بَلْ وَلَا دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا ، وَلَا ذُكِرَتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، لَكِنَّ الْأُصُولَ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ
[9] صِدْقُ الرَّسُولِ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَهِيَ غَيْرُ هَذِهِ ، كَمَا قَدْ بُيِّنَ
[10] فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا أُصُولًا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ إِلَّا بِهَا ، وَأَنَّ مَعْرِفَتَهَا شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ ، أَوْ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ هُمْ مِنْ أَهْلِ
[ ص: 95 ] الْبِدَعِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ أُصُولَهُمْ بِدْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ . لَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي الْعَقْلِ ، وَأَمَّا الْحُذَّاقُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ ، مُبْتَدَعَةٌ فِي الشَّرْعِ ، وَأَنَّهَا تُنَاقِضُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ .
وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=22290الْخَطَأُ فِي الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُقَالُ إِنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ ، كُفْرًا
[11] ، فَهَؤُلَاءِ السَّالِكُونَ هَذِهِ الطُّرُقَ الْبَاطِلَةَ فِي الْعَقْلِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الشَّرْعِ هُمُ الْكُفَّارُ لَا مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ فِيهَا كُفْرًا ، فَلَا يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَافِرًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ .
وَلَكِنْ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُمْ يَبْتَدِعُونَ أَقْوَالًا يَجْعَلُونَهَا وَاجِبَةً فِي الدِّينِ ، بَلْ يَجْعَلُونَهَا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا ، وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ كَفِعْلِ
الْخَوَارِجِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يَبْتَدِعُونَ قَوْلًا وَلَا يُكَفِّرُونَ مَنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ مُكَفِّرًا لَهُمْ مُسْتَحِلًّا لِدِمَائِهِمْ ، كَمَا لَمْ تُكَفِّرِ الصَّحَابَةُ
الْخَوَارِجَ ، مَعَ تَكْفِيرِهِمْ
nindex.php?page=showalam&ids=7لِعُثْمَانَ nindex.php?page=showalam&ids=8وَعَلِيٍّ وَمَنْ وَالَاهُمَا ، وَاسْتِحْلَالِهِمْ لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ .
وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالتَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ ، وَالتَّأْثِيمِ وَنَفْيِهِ
[12] ، وَالتَّكْفِيرِ وَنَفْيِهِ ، لِكَوْنِهِمْ بَنَوْا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ : قَوْلِ
الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ كُلَّ مُسْتَدِلٍّ قَادِرًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ ، فَيُعَذَّبُ كُلُّ مَنْ
[ ص: 96 ] لَمْ يَعْرِفْهُ ، وَقَوْلِ
الْجَهْمِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا ، بَلِ اللَّهُ يُعَذِّبُ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ ، فَيُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا قَطُّ ، وَيُنَعِّمُ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَنْبًا قَطُّ ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْزِمُ بِعَذَابِ
nindex.php?page=treesubj&link=28638أَطْفَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَيَقُولُ : لَا أَدْرِي مَا يَقَعُ ، وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَغْفِرَ لِأَفْسَقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا ، وَيُعَذِّبَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ عَلَى السَّيِّئَةِ الصَّغِيرَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا ، بَلْ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ .
وَأَصْلُ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ
الْجَهْمِيَّةَ يَقُولُونَ : إِنَّهُ فِي كُلِّ حَادِثٍ يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ ، وَأُولَئِكَ
الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ ، وَطَوَائِفُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : أَصْلُ الْإِحْدَاثِ وَالْإِبْدَاعِ كَانَ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ خَلَقَ أَسْبَابًا وَحِكَمًا عَلَّقَ الْحَوَادِثَ بِهَا .
وَاخْتَلَفَتِ
الْقَدَرِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ الْجَبْرِيَّةُ فِي الظُّلْمِ . فَقَالَتِ
الْقَدَرِيَّةُ : الظُّلْمُ فِي حَقِّهِ هُوَ مَا نَعْرِفُهُ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا . فَإِذَا قِيلَ : إِنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِنَّهُ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا وَقَعَ ، وَقِيلَ مَعَ ذَلِكَ : إِنَّهُ يُعَذِّبُ الْعَاصِيَ ، كَانَ هَذَا ظُلْمًا كَظُلْمِنَا ، وَسَمَّوْا أَنْفُسَهُمُ الْعَدْلِيَّةَ . وَقَالَتِ
الْجَهْمِيَّةُ : الظُّلْمُ فِي حَقِّهِ هُوَ مَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ ، فَأَمَّا كُلُّ مَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فَلَيْسَ بِظُلْمٍ ; فَإِنَّ الظُّلْمَ إِمَّا مُخَالَفَةُ أَمْرِ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ ، وَإِمَّا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ
[ ص: 97 ] إِذْنِهِ ؛ فَالْإِنْسَانُ يُوصَفُ بِالظُّلْمِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ رَبِّهِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ
[13] يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى لَيْسَ فَوْقَهُ آمِرٌ ، وَلَا لِغَيْرِهِ مُلْكٌ ، بَلْ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ ، فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ فَلَيْسَ بِظُلْمٍ ؛ بَلْ إِذَا نَعَّمَ
فِرْعَوْنَ وَأَبَا جَهْلٍ وَأَمْثَالَهُمَا مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَعَصَاهُ ، وَعَذَّبَ
مُوسَى وَمُحَمَّدًا مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ فَهُوَ مِثْلُ الْعَكْسِ ، الْجَمِيعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ . وَلَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ يُنَعِّمُ الْمُطِيعِينَ وَأَنَّهُ يُعَذِّبُ الْعُصَاةَ صَارَ ذَلِكَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ لِخَبَرِهِ الصَّادِقِ ، لَا لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ . وَالْأَعْمَالُ عَلَامَاتٌ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، لَيْسَتْ أَسْبَابًا .
فَهَذَا قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=15658جَهْمٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَمَنْ وَافَقَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13711كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَتْبَاعِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا جَوَّزَ هَؤُلَاءِ أَنْ يُعَذِّبَ الْعَاجِزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَلَوِ اجْتَهَدَ ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَسْبَابٌ لِلْحَوَادِثِ وَلَا حِكَمٌ ، وَلَا فِي الْأَفْعَالِ صِفَاتٌ لِأَجْلِهَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا ، بَلْ عِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ( لَامُ كَيْ ) .
وَأَمَّا
الْقَدَرِيَّةُ فَيُثْبِتُونَ لَهُ شَرِيعَةً فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِبَادِهِ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى قَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَوَاضِعَ ، وَذَكَرْنَا فَصْلًا فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى مَا نَسَبَهُ هَذَا الرَّافِضِيُّ إِلَى جَمِيعِ
[14] أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ
الْجَهْمِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْإِمَامَةِ وَالتَّفْضِيلِ ، بَلْ مِنَ
الشِّيعَةِ مَنْ يَقُولُ بِالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ ، وَفِي أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا وَبِهَذَا .
[ ص: 98 ] وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَصْوِيبِ الْمُتَنَازِعِينَ : مُصِيبِينَ أَوْ مُخْطِئِينَ ، مُثَابِينَ أَوْ مُعَاقَبِينَ ، مُؤْمِنِينَ أَوْ كُفَّارًا - هُوَ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا .