إذا عرفت مراد القوم بالفناء ، فنذكر أقسامه ومراتبه ، وممدوحه ومذمومه ومتوسطه .
فاعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411الفناء مصدر فني يفنى فناء إذا اضمحل وتلاشى وعدم ، وقد يطلق على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه ، كما قال الفقهاء : لا يقتل في المعركة شيخ فان ، وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=26كل من عليها فان أي هالك ذاهب ، ولكن القوم اصطلحوا على وضع هذه اللفظة لتجريد شهود الحقيقة الكونية ، والغيبة عن شهود الكائنات .
وهذا الاسم يطلق على ثلاثة معان : الفناء عن وجود السوى ، والفناء عن شهود السوى ، والفناء عن إرادة السوى .
فأما
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411الفناء عن وجود السوى : فهو فناء الملاحدة ، القائلين بوحدة الوجود ، وأنه ما ثم غير ، وأن غاية العارفين والسالكين الفناء في الوحدة المطلقة ، ونفي التكثر والتعدد عن الوجود بكل اعتبار ، فلا يشهد غيرا أصلا ، بل يشهد وجود العبد عين وجود الرب ، بل ليس عندهم في الحقيقة رب وعبد .
وفناء هذه الطائفة في شهود الوجود كله واحد ، وهو الواجب بنفسه ، ما ثم وجودان ممكن ، وواجب ، ولا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله ، وبين كون وجودها هو عين وجوده ، وليس عندهم فرقان بين العالمين ورب العالمين ويجعلون
[ ص: 175 ] الأمر والنهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم ، والأمر والنهي تلبيس عندهم ، والمحجوب عندهم يشهد أفعاله طاعات أو معاصي ، ما دام في مقام الفرق ، فإذا ارتفعت درجته شهد أفعاله كلها طاعات ، لا معصية فيها ، لشهوده الحقيقة الكونية الشاملة لكل موجود ، فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية ، بل ارتفعت الطاعات والمعاصي ، لأنها تستلزم اثنينية وتعددا ، وتستلزم مطيعا ومطاعا ، وعاصيا ومعصيا ، وهذا عندهم محض الشرك ، والتوحيد المحض يأباه ، فهذا فناء هذه الطائفة .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411الفناء عن شهود السوى : فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر
الصوفية المتأخرين ، ويعدونه غاية ، وهو الذي بنى عليه
nindex.php?page=showalam&ids=16132أبو إسماعيل الأنصاري كتابه وجعله الدرجة الثالثة في كل باب من أبوابه .
وليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج ، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم ، فحقيقته : غيبة أحدهم عن سوى مشهوده ، بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه ، لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته ، وبمذكوره عن ذكره ، وبموجوده عن وجوده ، وبمحبوبه عن حبه ، وبمشهوده عن شهوده .
وقد يسمى حال مثل هذا سكرا ، واصطلاحا ، ومحوا ، وجمعا ، وقد يفرقون بين معاني هذه الأسماء ، وقد يغلب شهود القلب بمحبوبه ومذكوره حتى يغيب به ويفنى به ، فيظن أنه اتحد به وامتزج ، بل يظن أنه هو نفسه ، كما يحكى أن رجلا ألقى محبوبه نفسه في الماء ، فألقى المحب نفسه وراءه ، فقال له : ما الذي أوقعك في الماء ؟ فقال : غبت بك عني فظننت أنك أني .
وهذا إذا عاد إليه عقله يعلم أنه كان غالطا في ذلك ، وأن الحقائق متميزة في ذاتها ، فالرب رب ، والعبد عبد ، والخالق بائن عن المخلوقات ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، ولكن في حال السكر والمحو الاصطلام والفناء : قد يغيب عن هذا التمييز ، وفي هذه الحال قد يقول صاحبها ما يحكى عن
أبي يزيد أنه قال " سبحاني " أو " ما في الجبة إلا الله " ونحو ذلك من الكلمات التي لو صدرت عن قائلها وعقله معه لكان كافرا ، ولكن مع سقوط التمييز والشعور ، قد يرتفع عنه قلم المؤاخذة .
[ ص: 176 ] وهذا الفناء يحمد منه شيء ، ويذم منه شيء ، ويعفى منه عن شيء .
فيحمد منه : فناؤه عن حب ما سوى الله ، وعن خوفه ، ورجائه ، والتوكل عليه ، والاستعانة به ، والالتفات إليه ، بحيث يبقى دين العبد ظاهرا وباطنا كله لله .
وأما عدم الشعور والعلم ، بحيث لا يفرق صاحبه بين نفسه وغيره ، ولا بين الرب والعبد مع اعتقاده الفرق ولا بين شهوده ومشهوده ، بل لا يرى السوى ولا الغير ، فهذا ليس بمحمود ، ولا هو وصف كمال ، ولا هو مما يرغب فيه ويؤمر به ، بل غاية صاحبه أن يكون معذورا لعجزه ، وضعف قلبه وعقله عن احتمال التمييز والفرقان ، وإنزال كل ذي منزلة منزلته ، موافقة لداعي العلم ، ومقتضى الحكمة ، وشهود الحقائق على ما هي عليه ، والتمييز بين القديم والمحدث ، والعبادة والمعبود ، فينزل العبادة منازلها ، ويشهد مراتبها ، ويعطي كل مرتبة منها حقها من العبودية ، ويشهد قيامه بها ، فإن شهود العبد قيامه بالعبودية أكمل في العبودية من غيبته عن ذلك ، فإن أداء العبودية في حال غيبة العبد عنها وعن نفسه بمنزلة أداء السكران والنائم ، وأداؤها في حال كمال يقظته وشعوره بتفاصيلها وقيامه بها أتم وأكمل وأقوى عبودية .
فتأمل حال عبدين في خدمة سيدهما ، أحدهما يؤدي حقوق خدمته في حال غيبته عن نفسه وعن خدمته لاستغراقه بمشاهدة سيده ، والآخر يؤديها في حال كمال حضوره ، وتمييزه ، وإشعار نفسه بخدمة السيد ، وابتهاجها بذلك ، فرحا بخدمته ، وسرورا والتذاذا منه ، واستحضارا لتفاصيل الخدمة ومنازلها ، وهو مع ذلك عامل على مراد سيده منه ، لا على مراده من سيده ، فأي العبدين أكمل ؟
فالفناء : حظ الفاني ومراده ، والعلم ، والشعور ، والتمييز ، والفرق ، وتنزيل الأشياء منازلها ، وجعلها في مراتبها : حق الرب ومراده ، ولا يستوي صاحب هذه العبودية ، وصاحب تلك .
[ ص: 177 ] نعم ، هذا أكمل حالا من الذي لا حضور له ولا مشاهدة بالمرة ، بل هو غائب بطبعه ونفسه عن معبوده وعن عبادته ، وصاحب التمييز والفرقان - وهو صاحب الفناء الثالث - أكمل منهما ، فزوال العقل والتمييز والغيبة عن شهود نفسه وأفعالها لا يحمد ، فضلا عن أن يكون في أعلى مراتب الكمال ، بل يذم إذا تسبب إليه ، وباشر أسبابه ، وأعرض عن الأسباب التي توجب له التمييز والعقل ، ويعذر إذا ورد عليه ذلك بلا استدعاء ، بأن كان مغلوبا عليه ، كما يعذر النائم والمغمى عليه ، والمجنون ، والسكران الذي لا يذم على سكره ، كالموجر والجاهل بكون الشراب مسكرا ، ونحوهما .
وليس أيضا هذه الحال بلازمة لجميع السالكين ، بل هي عارضة لبعضهم ، منهم من يبتلى بها ،
كأبي يزيد وأمثاله ، ومنهم من لا يبتلى بها ، وهم أكمل وأقوى ، فإن الصحابة رضي الله عنهم - وهم سادات العارفين ، وأئمة الواصلين المقربين ، وقدوة السالكين - لم يكن منهم من ابتلي بذلك ، مع قوة إرادتهم ، وكثرة منازلاتهم ، ومعاينة ما لم يعاينه غيرهم ، ولا شم له رائحة ، ولم يخطر على قلبه ، فلو كان هذا الفناء كمالا لكانوا هم أحق به وأهله ، وكان لهم منه ما لم يكن لغيرهم .
ولا كان هذا أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ولا حالا من أحواله ، صلى الله عليه وسلم ، ولهذا - في ليلة المعراج لما أسري به ، وعاين ما عاين مما أراه الله إياه من آياته الكبرى - لم تعرض له هذه الحال ، بل كان كما وصفه الله عز وجل بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17ما زاغ البصر وما طغى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=18لقد رأى من آيات ربه الكبرى وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هي رؤيا عين ، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ، ومع هذا فأصبح بينهم لم يتغير عليه حاله ، ولم يعرض له صعق ولا غشي ، يخبرهم عن تفصيل ما رأى ، غير فان عن نفسه ، ولا عن شهوده ، ولهذا كانت حاله أكمل من حال
موسى بن عمران صلى الله
[ ص: 178 ] عليهما وسلم لما خر صعقا حين تجلى ربه للجبل وجعله دكا .
إِذَا عَرَفْتَ مُرَادَ الْقَوْمِ بِالْفَنَاءِ ، فَنَذْكُرُ أَقْسَامَهُ وَمَرَاتِبَهُ ، وَمَمْدُوحَهُ وَمَذْمُومَهُ وَمُتَوَسِّطَهُ .
فَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411الْفَنَاءَ مَصْدَرُ فَنِيَ يَفْنَى فَنَاءً إِذَا اضْمَحَلَّ وَتَلَاشَى وَعُدِمَ ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا تَلَاشَتْ قُوَاهُ وَأَوْصَافُهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : لَا يُقْتَلُ فِي الْمَعْرَكَةِ شَيْخٌ فَانٍ ، وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=26كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ أَيْ هَالِكٌ ذَاهِبٌ ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اصْطَلَحُوا عَلَى وَضْعِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِتَجْرِيدِ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ ، وَالْغَيْبَةِ عَنْ شُهُودِ الْكَائِنَاتِ .
وَهَذَا الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى ، وَالْفِنَاءِ عَنْ شُهُودِ السِّوَى ، وَالْفِنَاءِ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى .
فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السِّوَى : فَهُوَ فَنَاءُ الْمَلَاحِدَةِ ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ ، وَأَنَّ غَايَةَ الْعَارِفِينَ وَالسَّالِكِينَ الْفَنَاءُ فِي الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ ، وَنَفِيُ التَّكَثُّرِ وَالتَّعَدُّدِ عَنِ الْوُجُودِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ ، فَلَا يَشْهَدُ غَيْرًا أصْلًا ، بَلْ يَشْهَدُ وُجُودَ الْعَبْدِ عَيْنَ وُجُودِ الرَّبِّ ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ رَبٌّ وَعَبْدٌ .
وَفَنَاءُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ فِي شُهُودِ الْوُجُودِ كُلِّهِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ ، مَا ثَمَّ وُجُودَانِ مُمْكِنٌ ، وَوَاجِبٌ ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كَوْنِ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ بِاللَّهِ ، وَبَيْنَ كَوْنِ وُجُودِهَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِهِ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فُرْقَانٌ بَيْنَ الْعَالَمِينَ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَجْعَلُونَ
[ ص: 175 ] الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ عَنْ شُهُودِهِمْ وَفَنَائِهِمْ ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ تَلْبِيسٌ عِنْدَهُمْ ، وَالْمَحْجُوبُ عِنْدَهُمْ يَشْهَدُ أَفْعَالَهُ طَاعَاتٍ أَوْ مَعَاصِيَ ، مَا دَامَ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُ شَهِدَ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا طَاعَاتٍ ، لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا ، لِشُهُودِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُ عِنْدَهُمْ فَلَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ ، بَلِ ارْتَفَعَتِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي ، لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ اثْنَيْنِيَّةً وَتَعَدُّدًا ، وَتَسْتَلْزِمُ مُطِيعًا وَمُطَاعًا ، وَعَاصِيًا وَمَعْصِيًّا ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَحْضُ الشِّرْكِ ، وَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ يَأْبَاهُ ، فَهَذَا فَنَاءُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى : فَهُوَ الْفَنَاءُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ
الصُّوفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَيَعُدُّونَهُ غَايَةً ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=16132أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ كِتَابَهُ وَجَعَلَهُ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ .
وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ فَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ فِي الْخَارِجِ ، بَلْ فَنَاؤُهُ عَنْ شُهُودِهِمْ وَحِسِّهِمْ ، فَحَقِيقَتُهُ : غَيْبَةُ أَحَدِهِمْ عَنْ سِوَى مَشْهُودِهِ ، بَلْ غَيْبَتُهُ أيْضًا عَنْ شُهُودِهِ وَنَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ يَغِيبُ بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ ، وَبِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ .
وَقَدْ يُسَمَّى حَالٌ مِثْلُ هَذَا سُكْرًا ، وَاصْطِلَاحًا ، وَمَحْوًا ، وَجَمْعًا ، وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ، وَقَدْ يَغْلِبُ شُهُودُ الْقَلْبِ بِمَحْبُوبِهِ وَمَذْكُورِهِ حَتَّى يَغِيبَ بِهِ وَيَفْنَى بِهِ ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ وَامْتَزَجَ ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ ، كَمَا يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى مَحْبُوبُهُ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ ، فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ وَرَاءَهُ ، فَقَالَ لَهُ : مَا الَّذِي أَوْقَعَكَ فِي الْمَاءِ ؟ فَقَالَ : غِبْتُ بِكَ عَنِّي فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِّي .
وَهَذَا إِذَا عَادَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ غَالِطًا فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْحَقَائِقَ مُتَمَيِّزَةٌ فِي ذَاتِهَا ، فَالرَّبُّ رَبٌّ ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ ، وَالْخَالِقُ بَائِنٌ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ ، لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ، وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَلَكِنْ فِي حَالِ السُّكْرِ وَالْمَحْوِ الِاصْطِلَامُ وَالْفَنَاءُ : قَدْ يَغِيبُ عَنْ هَذَا التَّمْيِيزِ ، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ قَدْ يَقُولُ صَاحِبُهَا مَا يُحْكَى عَنْ
أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ " سُبْحَانِي " أَوْ " مَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي لَوْ صَدَرَتْ عَنْ قَائِلِهَا وَعَقْلُهُ مَعَهُ لَكَانَ كَافِرًا ، وَلَكِنْ مَعَ سُقُوطِ التَّمْيِيزِ وَالشُّعُورِ ، قَدْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ قَلَمُ الْمُؤَاخَذَةِ .
[ ص: 176 ] وَهَذَا الْفَنَاءُ يُحْمَدُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيُذَمُّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيُعْفَى مِنْهُ عَنْ شَيْءٍ .
فَيُحْمَدُ مِنْهُ : فَنَاؤُهُ عَنْ حُبِّ مَا سِوَى اللَّهِ ، وَعَنْ خَوْفِهِ ، وَرَجَائِهِ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ ، بِحَيْثُ يَبْقَى دِينُ الْعَبْدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كُلُّهُ لِلَّهِ .
وَأَمَّا عَدَمُ الشُّعُورِ وَالْعِلْمِ ، بِحَيْثُ لَا يُفَرِّقُ صَاحِبُهُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَلَا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مَعَ اعْتِقَادِهِ الْفَرْقَ وَلَا بَيْنَ شُهُودِهِ وَمَشْهُودِهِ ، بَلْ لَا يَرَى السِّوَى وَلَا الْغَيْرَ ، فَهَذَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ ، وَلَا هُوَ وَصْفُ كَمَالٍ ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ ، بَلْ غَايَةُ صَاحِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لِعَجْزِهِ ، وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَعَقْلِهِ عَنِ احْتِمَالِ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانِ ، وَإِنْزَالِ كُلِّ ذِي مَنْزِلَةٍ مَنْزِلَتَهُ ، مُوَافَقَةً لِدَاعِي الْعِلْمِ ، وَمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ ، وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ ، وَالْعِبَادَةِ وَالْمَعْبُودِ ، فَيُنَزِّلُ الْعِبَادَةَ مَنَازِلَهَا ، وَيَشْهَدُ مَرَاتَبَهَا ، وَيُعْطِي كُلَّ مَرْتَبَةٍ مِنْهَا حَقَّهَا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ ، وَيَشْهَدُ قِيَامَهُ بِهَا ، فَإِنَّ شُهُودَ الْعَبْدِ قِيَامَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ أَكْمَلُ فِي الْعُبُودِيَّةِ مِنْ غَيْبَتِهِ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ أَدَاءَ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ عَنْهَا وَعَنْ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ ، وَأَدَاؤُهَا فِي حَالِ كَمَالِ يَقَظَتِهِ وَشُعُورِهِ بِتَفَاصِيلِهَا وَقِيَامِهِ بِهَا أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَقْوَى عُبُودِيَّةً .
فَتَأَمَّلْ حَالَ عَبْدَيْنِ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِمَا ، أَحَدُهُمَا يُؤَدِّي حُقُوقَ خِدْمَتِهِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ خِدْمَتِهِ لِاسْتِغْرَاقِهِ بِمُشَاهَدَةِ سَيِّدِهِ ، وَالْآخَرُ يُؤَدِّيهَا فِي حَالِ كَمَالِ حُضُورِهِ ، وَتَمْيِيزِهِ ، وَإِشْعَارِ نَفْسِهِ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ ، وَابْتِهَاجِهَا بِذَلِكَ ، فَرَحًا بِخِدْمَتِهِ ، وَسُرُورًا وَالْتِذَاذًا مِنْهُ ، وَاسْتِحْضَارًا لِتَفَاصِيلِ الْخِدْمَةِ وَمَنَازِلِهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَامِلٌ عَلَى مُرَادِ سَيِّدِهِ مِنْهُ ، لَا عَلَى مُرَادِهِ مِنْ سَيِّدِهِ ، فَأَيُّ الْعَبْدَيْنِ أَكْمَلُ ؟
فَالْفَنَاءُ : حَظُّ الْفَانِي وَمُرَادُهُ ، وَالْعِلْمُ ، وَالشُّعُورُ ، وَالتَّمْيِيزُ ، وَالْفَرْقُ ، وَتَنْزِيلُ الْأَشْيَاءِ مَنَازِلَهَا ، وَجَعْلُهَا فِي مَرَاتِبِهَا : حَقُّ الرَّبِّ وَمُرَادُهُ ، وَلَا يَسْتَوِي صَاحِبُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَصَاحِبُ تِلْكَ .
[ ص: 177 ] نَعَمْ ، هَذَا أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الَّذِي لَا حُضُورَ لَهُ وَلَا مُشَاهَدَةَ بِالْمَرَّةِ ، بَلْ هُوَ غَائِبٌ بِطَبْعِهِ وَنَفْسِهِ عَنْ مَعْبُودِهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ ، وَصَاحِبُ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانِ - وَهُوَ صَاحِبُ الْفَنَاءِ الثَّالِثِ - أَكْمَلُ مِنْهُمَا ، فَزَوَالُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالْغَيْبَةُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَأَفْعَالِهَا لَا يُحْمَدُ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ ، بَلْ يُذَمُّ إِذَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ ، وَبَاشَرَ أَسْبَابَهُ ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ التَّمْيِيزَ وَالْعَقْلَ ، وَيُعْذَرُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ ، بِأَنْ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ ، كَمَا يُعْذَرُ النَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَالْمَجْنُونُ ، وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يُذَمُّ عَلَى سُكْرِهِ ، كَالْمُوجَرِ وَالْجَاهِلِ بِكَوْنِ الشَّرَابِ مُسْكِرًا ، وَنَحْوِهِمَا .
وَلَيْسَ أَيْضًا هَذِهِ الْحَالُ بِلَازِمَةٍ لِجَمِيعِ السَّالِكِينَ ، بَلْ هِيَ عَارِضَةٌ لِبَعْضِهِمْ ، مِنْهُمْ مَنْ يُبْتَلَى بِهَا ،
كَأَبِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُبْتَلَى بِهَا ، وَهُمْ أَكْمَلُ وَأَقْوَى ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُمْ سَادَاتُ الْعَارِفِينَ ، وَأَئِمَّةُ الْوَاصِلِينَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَقُدْوَةُ السَّالِكِينَ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ ، مَعَ قُوَّةِ إِرَادَتِهِمْ ، وَكَثْرَةِ مُنَازَلَاتِهِمْ ، وَمُعَايَنَةِ مَا لَمْ يُعَايِنْهُ غَيْرُهُمْ ، وَلَا شَمَّ لَهُ رَائِحَةً ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِهِ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَنَاءُ كَمَالًا لَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِهِ وَأَهْلَهُ ، وَكَانَ لَهُمْ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ .
وَلَا كَانَ هَذَا أَيْضًا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا حَالًا مِنْ أَحْوَالِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِهَذَا - فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ ، وَعَايَنَ مَا عَايَنَ مِمَّا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى - لَمْ تَعْرِضْ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ ، بَلْ كَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=17مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=18لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ، وَمَعَ هَذَا فَأَصْبَحَ بَيْنَهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ حَالُهُ ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ صَعْقٌ وَلَا غُشِيَ ، يُخْبِرُهُمْ عَنْ تَفْصِيلِ مَا رَأَى ، غَيْرَ فَانٍ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا عَنْ شُهُودِهِ ، وَلِهَذَا كَانْتَ حَالُهُ أَكْمَلَ مَنْ حَالِ
مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ صَلَّى اللَّهُ
[ ص: 178 ] عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَّ صَعِقًا حِينَ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ وَجَعَلَهُ دَكًّا .