فصل
ويعرض للسالك
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411على درب الفناء معاطب ومهالك ، لا ينجيه منها إلا بصيرة العلم ، التي إن صحبته في سيره ، وإلا فبسبيل من هلك .
منها : أنه إذا اقتحم عقبة الفناء ظن أن صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي ، لتشويشه على الفناء ونقضه له ، والفناء عنده غاية العارفين ، ونهاية التوحيد ، فيرى ترك كل ما أبطله وأزاله ، من أمر ونهي أو غيرهما ، ويصرح بعضهم بأنه إنما يسقط الأمر والنهي عمن شهد الإرادة ، وأما من لم يشهدها فالأمر والنهي لازمان له ، ولم يعلم هذا المغرور أن غاية ما معه الفناء في توحيد أهل الشرك الذي أقروا به ، ولم يكونوا به مسلمين البتة ، كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=84قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=85سيقولون لله قل أفلا تذكرون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=86قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=87سيقولون لله قل أفلا تتقون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=88قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=89سيقولون لله قل فأنى تسحرون وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=106وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس [ ص: 180 ] : تسألهم من خلق السماوات والأرض ؟ فيقولون : الله ، وهم يعبدون غيره .
ومن كان هذا التوحيد والفناء غاية توحيده انسلخ من دين الله ، ومن جميع رسله وكتبه ، إذ لم يتميز عنده ما أمر الله به مما نهى عنه ، ولم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ، ولا بين محبوبه ومبغوضه ، ولا بين المعروف والمنكر ، وسوى بين المتقين والفجار ، والطاعة والمعصية ، بل ليس عنده في الحقيقة إلا الطاعة لاستواء الكل في الحقيقة التي هي المشيئة العامة الشاملة .
ثم صاحب هذا المقام يظن أنه صاحب الجمع والتوحيد ، وأنه وصل إلى عين الحقيقة ، وإنما وصل المسكين إلى الحقيقة الشاملة التي يدخل فيها إبليس وجنوده أجمعون ، وكل كافر ومشرك وفاجر ، فإن هؤلاء كلهم تحت الحقيقة الكونية القدرية ، فغاية صاحب هذا المشهد وصوله إلى أن يشهد استواء هؤلاء والمؤمنين الأبرار ، وأولياء الله وخاصة عباده في هذه الحقيقة ، ومع هذا فلا بد له من الفرق ، والموالاة والمعاداة ضرورة ، فينسلخ عن الفرق الشرعي ، ويعود إلى الفرق الطبعي النفسي بهواه وطبعه ، إذ لا بد أن يفرق بين ما ينفعه فيميل إليه ، وما يضره فيهرب منه ، فبينا هو منكر على أهل الفرق الشرعي ناكبا على طريقتهم إلى عين الجمع ، إذ انتكس وارتكس ، وعاد إلى الفرق الطبعي النفسي ، فيوالي ويعادي ، ويحب ويبغض ، بحسب هواه وإرادته .
فإن الفرق أمر ضروري للإنسان ، فمن لم يكن فرقه قرآنيا محمديا ، فلا بد له من قانون يفرق به : إما سياسة سائس فوقه ، أو ذوق منه أو من غيره ، أو رأي منه أو من غيره ، أو يفرق فرقا بهيميا حيوانيا بحسب مجرد شهوته وغرضه أين توجهت به ، فلا بد من التفريق بأحد هذه الوجوه .
فلينظر العبد من الحاكم عليه في الفرق ، وليزن به إيمانه قبل أن يوزن ، وليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، وليستبدل الذهب بالخزف ، والدر بالبعر ، والماء الزلال بالسراب الذي
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب قبل أن يسأل الرجعة إلى دار الصرف ، فيقال : هيهات ! اليوم يوم الوفاء ، وما مضى فقد فات ، أحصي المستخرج والمصروف ، وستعلم الآن ما معك من النقد الصحيح والزيوف .
وأصحاب هذه الحقيقة أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور
[ ص: 181 ] العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ، إذا تناهوا في حقيقتهم أضافوا الجميع إلى الله إضافة المحبة والرضى ، وجعلوها عين المشيئة والخلق ، ضاهئوا الذين قال الله تعالى فيهم
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=35وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وقولهم عن آلهتهم
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=20لو شاء الرحمن ما عبدناهم وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها فاحتجوا بإقرار الله لهم قدرا وكونا على رضاه ومحبته وأمره ، وأنه لو كره ذلك منهم لحال بينهم وبينه ، ولما أقرهم عليه ، فجعلوا قضاءه وقدره عين محبته ورضاه ، وورثهم من سوى بين المخلوقات ، ولم يفرق بالفرق النبوي القرآني .
وطائفة من المشركين ذكرت ذلك معارضين لأمر الله ونهيه ، وما بعث به رسله ، بقضائه وقدره ، فعارضوا الحقيقة الدينية الشرعية بالحقيقة الكونية القدرية ، وورثهم من يحتج بالقضاء والقدر في مخالفة الأمر والنهي ، وكلا الطائفتين أبطلت أمره ونهيه بقضائه وقدره .
وظنت طائفة ثالثة أن إثبات القضاء والقدر يبطل الشرائع والنبوات ، وأن المشركين احتجوا على بطلانها بإثباته ، فجعلت التكذيب به من أصول الإيمان ، بل أعظم أصوله ، فردت قضاء الله وقدره الشامل العام بأمره ونهيه .
فانظر إلى اقتسام الطوائف هذا الموضع ، وافتراقهم في مفرق هذا الطريق علما وخبرا ، وسلوكا وحقيقة ، وتأمل أحوال الخلق في هذا المقام ، تنكشف لك أسرار العالمين ، وتعلم أين أنت وأين مقامك ؟ وتعرف ما جنى هذا الجمع وهذا الفناء على الإيمان ، وما خرب من القواعد والأركان ، وتتحقق حينئذ أن الدين كله فرقان في القرآن ، فرق في جمع ، وكثرة في وحدة ، كما تقدم بيانه ، وأن أولى الناس بالله وكتبه ورسله ودينه أصحاب الفرق في الجمع ، فيقومون بالفرق بين ما يحبه الله ويبغضه ، ويأمر به وينهى عنه ، ويواليه ويعاديه ، علما وشهودا ، وإرادة وعملا ، مع شهودهم الجمع لذلك كله في قضائه وقدره ، ومشيئته الشاملة العامة ، فيؤمنون بالحقيقة الدينية والكونية ، ويعطون كل حقيقة حظها من العبادة .
فحظ الحقيقة الدينية القيام بأمره ونهيه ، ومحبة ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه ،
[ ص: 182 ] وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وأصل ذلك الحب فيه والبغض فيه .
وحظ الحقيقة الكونية إفراده بالافتقار إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، والالتجاء إليه ، وإفراده بالسؤال والطلب ، والتذلل والخضوع ، والتحقق بأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا يملك أحد سواه لهم ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وأنه مقلب القلوب ، فقلوبهم ونواصيهم بيده ، وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه .
فلهذه الحقيقة عبودية ، ولهذه الحقيقة عبودية ، ولا تبطل إحداهما الأخرى ، بل لا تتم إلا بها ، ولا تتم العبودية إلا بمجموعهما ، وهذا حقيقة قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين بخلاف من أبطل حقيقة "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد " بحقيقة "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نستعين " وقال : إنها جمع ، و "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد " فرق ، وقد يغلو في هذا المشهد فلا يستحسن حسنة ، ولا يستقبح قبيحة ، ويصرح بذلك ويقول : العارف لا يستحسن حسنة ، ولا يستقبح قبيحة لاستبصاره بسر القدر .
ومنهم من يقول : حقيقة هذا المشهد أن يشهد الوجود كله حسنا لا قبيح فيه ، وأفعالهم كلها طاعات لا معصية فيها ، لأنهم - وإن عصوا الأمر - فهم مطيعون المشيئة ، ويقولون :
أصبحت منفعلا لما تختاره مني ففعلي كله طاعات
ويقول قائلهم : من شهد الحقيقة سقط عنه الأمر ، ويحتجون بقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=99واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ويفسرون اليقين بشهود الحكم الكوني ، وهي الحقيقة عندهم .
ولا ريب أن العامة خير من هؤلاء وأصح إيمانا ، فإن هذا زندقة ونفاق ، وكذب منهم على أنفسهم ونبيهم وإلههم .
أما كذبهم على أنفسهم فإنهم لا بد أن يفرقوا قطعا ، فرغبوا عن الفرق النبوي والقرآني ، ووقعوا في الفرق النفسي الطبعي ، مثل حال إبليس ، تكبر عن السجود لآدم ، ورضي لنفسه بالقيادة لفساق ذريته ، ومثل المشركين تكبروا عن عبادة الله الحي القيوم ،
[ ص: 183 ] ورضوا لأنفسهم بعبادة الأحجار والأشجار والموتى والأوثان ، ومثل أهل البدع تكبروا عن تقليد النصوص ، وتلقي الهدى من مشكاتها ، ورضوا لأنفسهم بتقليد أقوال مخالفة للفطرة والعقل والشرع ، وظنوها قواطع عقلية ، وقدموها على نصوص الأنبياء ، وهي في الحقيقة شبهات مخالفة للسمع والعقل .
ومثل
الجهمية نزهوا الرب عن عرشه ، وجعلوه في أجواف البيوت والحوانيت والحمامات ، وقالوا : هو في كل مكان بذاته ، ونزهوه عن صفات كماله ونعوت جلاله حذرا - بزعمهم - من التشبيه فشبهوه بالجامدات الناقصة الخسيسة التي لا تتكلم ، ولا سمع لها ولا بصر ، ولا علم ولا حياة ، بل شبهوه بالمعدومات الممتنع وجودها .
ومثل
المعطلة الذين قالوا : ما فوق العرش إلا العدم ، وليس فوق العرش رب يعبد ، ولا إله يصلى له ويسجد ، ولا ترتفع الأيدي إليه ، ولا رفع
المسيح إليه ، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ، ولا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، ولا دني منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، ولا ينزل من عنده شيء ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا يراه أهل الجنة من فوقهم يوم القيامة ، واستواؤه على عرشه لا حقيقة له ، بل على المجاز الذي يصح نفيه ، وعلوه فوق خلقه بالرتبة والشرف لا بالذات ، وكذلك فوقيته فوقية قهر ، لا فوقية ذات ، فنزهوه عن كمال علوه وفوقيته ، ووصفوه بما ساووا به بينه وبين العدم والمستحيل ، فقالوا : لا هو داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا متصل به ، ولا منفصل عنه ، ولا محايث له ، ولا مباين له ، ولا هو فينا ، ولا خارج عنا .
ومعلوم أنه لو قيل لأحدهم : صف لنا العدم ، لوصفه بهذا بعينه .
وانطباق هذا السلب على العدم المحض أقرب إلى العقول والفطر من انطباقه على رب العالمين الذي ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، بل هو بائن من خلقه ، مستو على عرشه ، عال على كل شيء ، وفوق كل شيء .
والقصد
nindex.php?page=treesubj&link=30531أن كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده ، وقع في باطل مقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده ولا بد ، حتى في الأعمال من رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق ، فرغب عن العمل لمن ضره ونفعه وموته وحياته
[ ص: 184 ] وسعادته بيده ، فابتلي بالعمل لمن لا يملك له شيئا من ذلك .
وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم .
وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمة الخلق ولا بد .
وكذلك من رغب عن الهدي بالوحي ، ابتلي بكناسة الآراء وزبالة الأذهان ، ووسخ الأفكار .
فليتأمل من يريد نصح نفسه وسعادتها وفلاحها هذا الموضع في نفسه وفي غيره .
ولا ريب أن العامة - مع غفلتهم وشهواتهم - أصح إيمانا من هؤلاء إذا لم يعطلوا الأمر والنهي ، فإن إيمانا مع تفرقة وغفلة ، خير من شهود وجمعية يصحبها فساد الإيمان والانسلاخ منه .
وأما كذبهم على نبيهم فاعتقادهم أنه إنما كان قيامه بالأوراد والعبادات لأجل التشريع ، لا لأنها فرض عليه ، إذ قد سقط ذلك عنه بشهود الحقيقة وكمال اليقين ، فإن الله عز وجل أمره وأمر سائر رسله بعبادته إلى حين انقضاء آجالهم ، فقال
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=99واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهو الموت بالإجماع كما قال في الآية الأخرى عن الكفار
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=46وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين وقال صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980155أما nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه قاله لما مات عثمان ، وقال
المسيح nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=30إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا فهذه وصية الله
للمسيح ، وكذلك لجميع أنبيائه ورسله وأتباعهم ، قال
الحسن : لم يجعل الله لعبده المؤمن أجلا دون الموت .
وإذا جمع هؤلاء التجهم في الأسماء والصفات إلى شهود الحقيقة والوقوف عندها ، فأعاذك الله من تعطيل الرب وشرعه بالكلية ، فلا رب يعبد ، ولا شرع يتبع بالكلية .
ومن أراد الوقوف على حقيقة ما ذكرنا فليسير طرفه بين تلك المعالم ، وليقف على تلك المعاهد ، وليسأل الأحوال والرسوم والشواهد ، فإن لم تجبه حوارا ، أجابته حالا
[ ص: 185 ] واعتبارا ، وإنما يصدق بهذا من رافق السالكين ، وفارق القاعدين وتبوأ الإيمان ، وفارق عوائد أهل الزمان ، ولم يرض بقول القائل :
دع المعالي لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فَصْلٌ
وَيَعْرِضُ لِلسَّالِكِ
nindex.php?page=treesubj&link=29555_29411عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ مَعَاطِبُ وَمَهَالِكُ ، لَا يُنْجِيهِ مِنْهَا إِلَّا بَصِيرَةُ الْعِلْمِ ، الَّتِي إِنْ صَحِبَتْهُ فِي سَيْرِهِ ، وَإِلَّا فَبِسَبِيلِ مَنْ هَلَكَ .
مِنْهَا : أَنَّهُ إِذَا اقْتَحَمَ عُقْبَةَ الْفَنَاءِ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ، لِتَشْوِيشِهِ عَلَى الْفَنَاءِ وَنَقْضِهِ لَهُ ، وَالْفَنَاءُ عِنْدَهُ غَايَةُ الْعَارِفِينَ ، وَنِهَايَةُ التَّوْحِيدِ ، فَيَرَى تَرْكَ كُلِّ مَا أَبْطَلَهُ وَأَزَالَهُ ، مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَيُصَرِّحُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَمَّنْ شَهِدَ الْإِرَادَةَ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَازِمَانِ لَهُ ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْمَغْرُورُ أَنَّ غَايَةَ مَا مَعَهُ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ ، وَلَمْ يَكُونُوا بِهِ مُسْلِمِينَ الْبَتَّةَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=84قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=85سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=86قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=87سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=88قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=89سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=106وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ [ ص: 180 ] : تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ فَيَقُولُونَ : اللَّهُ ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ .
وَمَنْ كَانَ هَذَا التَّوْحِيدُ وَالْفَنَاءُ غَايَةَ تَوْحِيدِهِ انْسَلَخَ مِنْ دِينِ اللَّهِ ، وَمِنْ جَمِيعِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ ، إِذْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا نَهَى عَنْهُ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ ، وَلَا بَيْنَ مَحْبُوبِهِ وَمَبْغُوضِهِ ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ ، وَسَوَّى بَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا الطَّاعَةُ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ الْمَشِيئَةُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ .
ثُمَّ صَاحَبُ هَذَا الْمَقَامِ يَظُنُّ أَنَّهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ ، وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى عَيْنِ الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا وَصَلَ الْمِسْكِينُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ أَجْمَعُونَ ، وَكُلُّ كَافِرٍ وَمُشْرِكٍ وَفَاجِرٍ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ ، فَغَايَةُ صَاحِبِ هَذَا الْمَشْهَدِ وُصُولُهُ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ اسْتِوَاءَ هَؤُلَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارِ ، وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَخَاصَّةِ عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْفَرْقِ ، وَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ ضَرُورَةٌ ، فَيَنْسَلِخُ عَنِ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ ، وَيَعُودُ إِلَى الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ النَّفْسِيِّ بِهَوَاهُ وَطَبْعِهِ ، إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ فَيَمِيلُ إِلَيْهِ ، وَمَا يَضُرُّهُ فَيَهْرُبُ مِنْهُ ، فَبَيْنَا هُوَ مُنْكِرٌ عَلَى أَهْلِ الْفِرْقِ الشَّرْعِيِّ نَاكِبًا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ ، إِذِ انْتَكَسَ وَارْتَكَسَ ، وَعَادَ إِلَى الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ النَّفْسِيِّ ، فَيُوَالِي وَيُعَادِي ، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ ، بِحَسَبِ هَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ .
فَإِنَّ الْفَرْقَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِلْإِنْسَانِ ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَرْقُهُ قُرْآنِيًا مُحَمَّدِيًّا ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَانُونٍ يُفَرِّقُ بِهِ : إِمَّا سِيَاسَةُ سَائِسٍ فَوْقَهُ ، أَوْ ذَوْقٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ رَأْيٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، أَوْ يُفَرِّقُ فَرْقًا بَهِيمِيًّا حَيَوَانِيًّا بِحَسَبِ مُجَرَّدِ شَهْوَتِهِ وَغَرَضِهِ أَيْنَ تَوَجَّهَتْ بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْرِيقِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ .
فَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ مَنِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ ، وَلْيَزِنْ بِهِ إِيمَانَهُ قَبْلَ أَنْ يُوزَنَ ، وَلْيُحَاسِبْ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ ، وَلْيَسْتَبْدِلِ الذَّهَبَ بِالْخَزَفِ ، وَالدُّرَّ بِالْبَعْرِ ، وَالْمَاءَ الزُّلَالَ بِالسَّرَابِ الَّذِي
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجْعَةَ إِلَى دَارِ الصَّرْفِ ، فَيُقَالُ : هَيْهَاتَ ! الْيَوْمُ يَوْمُ الْوَفَاءِ ، وَمَا مَضَى فَقَدْ فَاتَ ، أُحْصِيَ الْمُسْتَخْرَجُ وَالْمَصْرُوفُ ، وَسَتَعْلَمُ الْآنَ مَا مَعَكَ مِنَ النَّقْدِ الصَّحِيحِ وَالزُّيُوفِ .
وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ صَائِحٍ ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ
[ ص: 181 ] الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ ، إِذَا تَنَاهَوْا فِي حَقِيقَتِهِمْ أَضَافُوا الْجَمِيعَ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى ، وَجَعَلُوهَا عَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ ، ضَاهَئُوا الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=35وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَقَوْلُهُمْ عَنْ آلِهَتِهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=20لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ وَقَوْلَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فَاحْتَجُّوا بِإِقْرَارِ اللَّهِ لَهُمْ قَدَرًا وَكَوْنًا عَلَى رِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَأَمْرِهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ، وَلَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ ، فَجَعَلُوا قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ عَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ ، وَوَرِثَهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بِالْفَرْقِ النَّبَوِيِّ الْقُرْآنِيِّ .
وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ مُعَارِضِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ ، وَمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ ، بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، فَعَارَضُوا الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ ، وَوَرِثَهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ أَبْطَلَتْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ .
وَظَنَّتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ إِثْبَاتَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ يُبْطِلُ الشَّرَائِعَ وَالنُّبُوَّاتِ ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ احْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِهَا بِإِثْبَاتِهِ ، فَجَعَلَتِ التَّكْذِيبَ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ ، بَلْ أَعْظَمَ أُصُولِهِ ، فَرَدَّتَ قَضَاءَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ الشَّامِلَ الْعَامَّ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ .
فَانْظُرْ إِلَى اقْتِسَامِ الطَّوَائِفِ هَذَا الْمَوْضِعَ ، وَافْتِرَاقِهِمْ فِي مَفْرِقِ هَذَا الطَّرِيقِ عِلْمًا وَخَبَرًا ، وَسُلُوكًا وَحَقِيقَةً ، وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، تَنْكَشِفْ لَكَ أَسْرَارُ الْعَالَمِينَ ، وَتَعْلَمْ أَيْنَ أَنْتَ وَأَيْنَ مَقَامُكَ ؟ وَتَعْرِفْ مَا جَنَى هَذَا الْجَمْعُ وَهَذَا الْفَنَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَمَا خَرَّبَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالْأَرْكَانِ ، وَتَتَحَقَّقْ حِينَئِذٍ أَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ فُرْقَانٌ فِي الْقُرْآنِ ، فَرْقٌ فِي جَمْعٍ ، وَكَثْرَةٌ فِي وَحْدَةٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ أَصْحَابُ الْفَرْقِ فِي الْجَمْعِ ، فَيَقُومُونَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ ، وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ، وَيُوَالِيهِ وَيُعَادِيهِ ، عِلْمًا وَشُهُودًا ، وَإِرَادَةً وَعَمَلًا ، مَعَ شُهُودِهِمُ الْجَمْعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ الْعَامَّةِ ، فَيُؤْمِنُونَ بِالْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ ، وَيُعْطُونَ كُلَّ حَقِيقَةٍ حَظَّهَا مِنَ الْعِبَادَةِ .
فَحَظُّ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الْقِيَامُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ ، وَكَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ ،
[ ص: 182 ] وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُ ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ .
وَحَظُّ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ إِفْرَادُهُ بِالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ ، وَإِفْرَادُهُ بِالسُّؤَالِ وَالطَّلَبِ ، وَالتَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ ، وَالتَّحَقُّقِ بِأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ سِوَاهُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ، وَأَنَّهُ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ ، فَقُلُوبُهُمْ وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ .
فَلِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عُبُودِيَّةٌ ، وَلِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عُبُودِيَّةٌ ، وَلَا تُبْطِلُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ، بَلْ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهَا ، وَلَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ إِلَّا بِمَجْمُوعِهِمَا ، وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بِخِلَافِ مَنْ أَبْطَلَ حَقِيقَةَ "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ " بِحَقِيقَةِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " وَقَالَ : إِنَّهَا جَمْعٌ ، وَ "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ " فَرْقٌ ، وَقَدْ يَغْلُو فِي هَذَا الْمَشْهَدِ فَلَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً ، وَلَا يَسْتَقْبِحُ قَبِيحَةً ، وَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ : الْعَارِفُ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً ، وَلَا يَسْتَقْبِحُ قَبِيحَةً لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ الْقَدَرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : حَقِيقَةُ هَذَا الْمَشْهَدِ أَنْ يَشْهَدَ الْوُجُودَ كُلَّهُ حَسَنًا لَا قَبِيحَ فِيهِ ، وَأَفْعَالَهُمْ كُلَّهَا طَاعَاتٍ لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا ، لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ عَصَوُا الْأَمْرَ - فَهُمْ مُطِيعُونَ الْمَشِيئَةَ ، وَيَقُولُونَ :
أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَارُهُ مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَاتُ
وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ : مَنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=99وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وَيُفَسِّرُونَ الْيَقِينَ بِشُهُودِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ عِنْدَهُمْ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَامَّةَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَصَحُّ إِيمَانًا ، فَإِنَّ هَذَا زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ ، وَكَذِبٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَإِلَهِهِمْ .
أَمَّا كَذِبُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقُوا قَطْعًا ، فَرَغِبُوا عَنِ الْفَرْقِ النَّبَوِيِّ وَالْقُرْآنِيِّ ، وَوَقَعُوا فِي الْفَرْقِ النَّفْسِيِّ الطَّبْعِيِّ ، مِثْلَ حَالِ إِبْلِيسَ ، تَكَبَّرَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ لِفُسَّاقِ ذُرِّيَّتِهِ ، وَمِثْلَ الْمُشْرِكِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ ،
[ ص: 183 ] وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْمَوْتَى وَالْأَوْثَانِ ، وَمِثْلَ أَهْلِ الْبِدَعِ تَكَبَّرُوا عَنْ تَقْلِيدِ النُّصُوصِ ، وَتَلَقِّي الْهُدَى مِنْ مِشْكَاتِهَا ، وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِتَقْلِيدِ أَقْوَالٍ مُخَالِفَةٍ لِلْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ، وَظَنُّوهَا قَوَاطِعَ عَقْلِيَّةً ، وَقَدَّمُوهَا عَلَى نُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ شُبُهَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِلسَّمْعِ وَالْعَقْلِ .
وَمِثْلَ
الْجَهْمِيَّةِ نَزَّهُوا الرَّبَّ عَنْ عَرْشِهِ ، وَجَعَلُوهُ فِي أَجْوَافِ الْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَمَّامَاتِ ، وَقَالُوا : هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ ، وَنَزَّهُوهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ حَذَرًا - بِزَعْمِهِمْ - مِنَ التَّشْبِيهِ فَشَبَّهُوهُ بِالْجَامِدَاتِ النَّاقِصَةِ الْخَسِيسَةِ الَّتِي لَا تَتَكَلَّمُ ، وَلَا سَمْعَ لَهَا وَلَا بَصَرَ ، وَلَا عِلْمَ وَلَا حَيَاةَ ، بَلْ شَبَّهُوهُ بِالْمَعْدُومَاتِ الْمُمْتَنِعِ وُجُودُهَا .
وَمِثْلَ
الْمُعَطَّلَةِ الَّذِينَ قَالُوا : مَا فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَّا الْعَدَمُ ، وَلَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ يُعْبَدُ ، وَلَا إِلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ ، وَلَا تَرْتَفِعُ الْأَيْدِي إِلَيْهِ ، وَلَا رَفَعَ
الْمَسِيحُ إِلَيْهِ ، وَلَا تَعَرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ، وَلَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ ، وَلَا دُنِّيَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْءٌ ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ ، وَلَا يَرَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ فَوْقِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، بَلْ عَلَى الْمَجَازِ الَّذِي يَصِحُّ نَفْيُهُ ، وَعُلُوُّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ بِالرُّتْبَةِ وَالشَّرَفِ لَا بِالذَّاتِ ، وَكَذَلِكَ فَوَقِيَّتُهُ فَوْقِيَّةُ قَهْرٍ ، لَا فَوْقِيَّةَ ذَاتٍ ، فَنَزَّهُوهُ عَنْ كَمَالِ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ ، وَوَصَفُوهُ بِمَا سَاوَوْا بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدَمِ وَالْمُسْتَحِيلِ ، فَقَالُوا : لَا هُوَ دَاخِلَ الْعَالَمِ ، وَلَا خَارِجَهُ ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِهِ ، وَلَا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ ، وَلَا مُحَايِثٌ لَهُ ، وَلَا مُبَايِنٌ لَهُ ، وَلَا هُوَ فِينَا ، وَلَا خَارِجٌ عَنَّا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ : صِفْ لَنَا الْعَدَمَ ، لَوَصَفَهُ بِهَذَا بِعَيْنِهِ .
وَانْطِبَاقُ هَذَا السَّلْبِ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنِ انْطِبَاقِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ، وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ، بَلْ هُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ ، عَالٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ .
وَالْقَصْدُ
nindex.php?page=treesubj&link=30531أَنَّ كُلَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَجَحَدَهُ ، وَقَعَ فِي بَاطِلٍ مُقَابِلٍ لِمَا أَعْرَضَ عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ وَجَحَدَهُ وَلَا بُدَّ ، حَتَّى فِي الْأَعْمَالِ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْعَمَلِ لِوَجْهِ اللَّهِ وَحْدَهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ لِوُجُوهِ الْخَلْقِ ، فَرَغِبَ عَنِ الْعَمَلِ لِمَنْ ضَرُّهُ وَنَفْعُهُ وَمَوْتُهُ وَحَيَاتُهُ
[ ص: 184 ] وَسَعَادَتُهُ بِيَدِهِ ، فَابْتُلِيَ بِالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنْ إِنْفَاقِ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ابْتُلِيَ بِإِنْفَاقِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ رَاغِمٌ .
وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنِ التَّعَبِ لِلَّهِ ابْتُلِيَ بِالتَّعَبِ فِي خِدْمَةِ الْخَلْقِ وَلَا بُدَّ .
وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْهَدْيِ بِالْوَحْيِ ، ابْتُلِيَ بِكُنَاسَةِ الْآرَاءِ وَزِبَالَةِ الْأَذْهَانِ ، وَوَسَخِ الْأَفْكَارِ .
فَلْيَتَأَمَّلْ مَنْ يُرِيدُ نُصْحَ نَفْسِهِ وَسَعَادَتَهَا وَفَلَاحَهَا هَذَا الْمَوْضِعَ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَامَّةَ - مَعَ غَفْلَتِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ - أَصَحُّ إِيمَانًا مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا لَمْ يُعَطِّلُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ، فَإِنَّ إِيمَانًا مَعَ تَفْرِقَةٍ وَغَفْلَةٍ ، خَيْرٌ مِنْ شُهُودٍ وَجَمْعِيَّةٍ يَصْحَبُهَا فَسَادُ الْإِيمَانِ وَالِانْسِلَاخُ مِنْهُ .
وَأَمَّا كَذِبُهُمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ فَاعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ قِيَامُهُ بِالْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ لِأَجْلِ التَّشْرِيعِ ، لَا لِأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ ، إِذْ قَدْ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَكَمَالِ الْيَقِينِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَهُ وَأَمَرَ سَائِرَ رُسُلِهِ بِعِبَادَتِهِ إِلَى حِينِ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ ، فَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=99وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وَهُوَ الْمَوْتُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عَنِ الْكُفَّارِ
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=46وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980155أَمَّا nindex.php?page=showalam&ids=5559عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ قَالَهُ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ ، وَقَالَ
الْمَسِيحُ nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=30إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا فَهَذِهِ وَصِيَّةُ اللَّهِ
لِلْمَسِيحِ ، وَكَذَلِكَ لِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ ، قَالَ
الْحَسَنُ : لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ .
وَإِذَا جَمَعَ هَؤُلَاءِ التَّجَهُّمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا ، فَأَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ تَعْطِيلِ الرَّبِّ وَشَرْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَلَا رَبَّ يُعْبَدُ ، وَلَا شَرْعَ يُتَّبَعُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَا ذَكَرْنَا فَلْيُسَيِّرْ طَرْفَهُ بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ ، وَلْيَقِفْ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاهِدِ ، وَلْيَسْأَلِ الْأَحْوَالَ وَالرُّسُومَ وَالشَّوَاهِدَ ، فَإِنْ لَمْ تَجُبْهُ حِوَارًا ، أَجَابَتْهُ حَالًا
[ ص: 185 ] وَاعْتِبَارًا ، وَإِنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَذَا مَنْ رَافَقَ السَّالِكِينَ ، وَفَارَقَ الْقَاعِدِينَ وَتَبَوَّأَ الْإِيمَانَ ، وَفَارَقَ عَوَائِدَ أَهْلِ الزَّمَانِ ، وَلَمْ يَرْضَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ :
دَعِ الْمَعَالِي لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي