أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة لوجوه :
أحدها : أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وأقبلوا على التمسك بما تتلو الشياطين ، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=25590الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر ، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا .
وثالثها : أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال ، فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال .
المسألة الثانية : قال الأكثرون : " الخلاق " النصيب ، قال
القفال : يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ، ومعناه التقدير ، ومنه خلق الأديم ، ومنه يقال : قدر للرجل كذا درهما رزقا على عمل كذا . وقال آخرون : الخلاق الخلاص ، ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=12467أمية بن أبي الصلت :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلا سرابيل قطران وأغلال
بقي في الآية سؤال ، وهو أنه : كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102ولقد علموا ) ثم نفاه عنهم في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102لو كانوا يعلمون ) والجواب من وجوه :
أحدها : أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا ، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه ، وهم الذين قال الله في حقهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=101نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون ، وهذا جواب
الأخفش وقطرب .
وثانيها : لو سلمنا كون القوم واحدا ولكنهم علموا شيئا وجهلوا شيئا آخر ،
[ ص: 202 ] علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ، ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة ، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها .
وثالثها : لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ، ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم ، بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار : " صما وبكما وعميا " إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس . ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه : صنعت ولم تصنع .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الشِّرَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَمَّا نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَأَقْبَلُوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ، فَكَأَنَّهُمْ قَدِ اشْتَرَوْا ذَلِكَ السِّحْرَ بِكِتَابِ اللَّهِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25590الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا قَصَدَا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ لِيَصِلَ بِذَلِكَ الِاحْتِرَازِ إِلَى مَنَافِعِ الْآخِرَةِ ، فَلَمَّا اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِمَنَافِعِ الْآخِرَةِ مَنَافِعَ الدُّنْيَا .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَ السِّحْرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْمِحَنِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ الْأَكْثَرُونَ : " الْخَلَاقُ " النَّصِيبُ ، قَالَ
الْقَفَّالُ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْخَلَقِ ، وَمَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ ، وَمِنْهُ خَلِقَ الْأَدِيمُ ، وَمِنْهُ يُقَالُ : قَدَّرَ لِلرَّجُلِ كَذَا دِرْهَمًا رِزْقًا عَلَى عَمَلِ كَذَا . وَقَالَ آخَرُونَ : الْخَلَاقُ الْخَلَاصُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=12467أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ :
يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ فِيهَا لَا خَلَاقَ لَهُمْ إِلَّا سَرَابِيلَ قَطْرَانٍ وَأَغْلَالِ
بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ : كَيْفَ أَثْبَتَ لَهُمُ الْعِلْمَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102وَلَقَدْ عَلِمُوا ) ثُمَّ نَفَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=102لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الَّذِينَ عَلِمُوا غَيْرَ الَّذِينَ لَمْ يَعْلَمُوا ، فَالَّذِينَ عَلِمُوا هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا السِّحْرَ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى تَعَلُّمِهِ ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=101نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) وَأَمَّا الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ فِي تَعَلُّمِ السِّحْرِ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ، وَهَذَا جَوَابُ
الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ .
وَثَانِيهَا : لَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْقَوْمِ وَاحِدًا وَلَكِنَّهُمْ عَلِمُوا شَيْئًا وَجَهِلُوا شَيْئًا آخَرَ ،
[ ص: 202 ] عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ خَلَاقٌ ، وَلَكِنَّهُمْ جَهِلُوا مِقْدَارَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَارِّهَا وَعُقُوبَاتِهَا .
وَثَالِثُهَا : لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَوْمَ وَاحِدٌ وَالْمَعْلُومَ وَاحِدٌ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعِلْمِهِمْ ، بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ كَالْعَدَمِ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ : " صُمًّا وَبُكْمًا وَعُمْيًا " إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ . وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي شَيْءٍ يَفْعَلُهُ لَكِنَّهُ لَا يَضَعُهُ مَوْضِعَهُ : صَنَعْتَ وَلَمْ تَصْنَعْ .