الرتبة الثانية
nindex.php?page=treesubj&link=29428_28675رتبة المعذبين ، وهذه رتبة من تحلى بأصل الإيمان ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه ، فإن رأس الإيمان هو التوحيد وهو أن لا يعبد إلا الله ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة بل معنى قولك لا إله إلا الله معنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهو أن تذر في الكلية غير الله ومعنى قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=30الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكمل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأحد من السيف ، مثل الصراط الموصوف في الآخرة فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ، ولو في أمر يسير إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ، ولو في فعل قليل ، وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم فذلك يقتضي لا محالة نقصانا في درجات القرب ، ومع كل نقصان ناران نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان ، ونار جهنم كما وصفها القرآن فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذبا مرتين من وجهين ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة ، إنما يكون بسبب أمرين أحدهما قوة الإيمان وضعفه ، والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته وإذ ; لا يخلو بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين ; قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=71وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=72ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ولذلك قال الخائفون من السلف : إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا في النجاة ولما روى
الحسن الخبر الوارد فيمن يخرج من النار بعد ألف عام وأنه ينادي يا حنان يا منان ، قال
الحسن : يا ليتني كنت ذلك الرجل واعلم أن في الأخبار ما يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30444آخر من يخرج من النار بعد سبعة آلاف سنة وأن الاختلاف في المدة بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة حتى قد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ، ولا يكون له فيها لبث وبين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والأسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة لا نهاية لأعلاه ، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو وقد يضرب بالسياط وقد يعذب بنوع آخر من العذاب ، ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة ، وهو اختلاف الأنواع ، إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذب بأخذ المال ، وقتل الولد ، واستباحة الحريم ، وتعذيب الأقارب والضرب .
وقطع اللسان واليد والأنف والأذن وغيره ، فهذه الاختلافات ثابتة في عذاب الآخرة دل عليها قواطع الشرع ، وهي بحسب اختلاف قوة الإيمان وضعفه ، وكثرة الطاعات وقلتها وكثرة السيئات وقلتها ، أما شدة العذاب ، فبشدة قبح السيئات وكثرتها ، وأما كثرته فبكثرتها وأما اختلاف أنواعه فباختلاف أنواع السيئات ، وقد انكشف هذا لأرباب القلوب مع شواهد القرآن بنور الإيمان ، وهو المعني بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وما ربك بظلام للعبيد وبقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=17اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وبقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وبقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=8ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من كون
nindex.php?page=treesubj&link=29468العقاب والثواب جزاء على الأعمال وكل ذلك بعدل لا ظلم فيه وجانب العفو والرحمة أرجح إذ قال تعالى : فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687843سبقت رحمتي غضبي وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، فإذن هذه الأمور الكلية من
nindex.php?page=treesubj&link=28846_29468_30437_30438ارتباط الدرجات والدركات بالحسنات والسيئات معلومة بقواطع الشرع ونور المعرفة فأما التفصيل فلا يعرف إلا ظنا ومستنده ظواهر الأخبار ، ونوع حدس يستمد من أنوار الاستبصار بعين الاعتبار فنقول : كل من أحكم أصل الإيمان ، واجتنب جميع الكبائر ، وأحسن جميع الفرائض أعني الأركان الخمسة ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لم يصر عليها ، فيشبه أن يكون عذابه المناقشة في الحساب فقط ، فإنه إذا حوسب رجحت حسناته على سيئاته ; إذ ورد في الأخبار إن الصلوات الخمسة والجمعة وصوم رمضان كفارات لما بينهن وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=30524اجتناب الكبائر بحكم نص القرآن مكفرا للصغائر وأقل درجات التكفير أن يدفع العذاب إن لم يدفع الحساب ، وكل من هذا حاله فقد ثقلت موازينه فينبغي أن يكون بعد ظهور الرجحان في الميزان ، وبعد الفراغ من الحساب في عيشة راضية نعم التحاقه بأصحاب اليمين أو بالمقربين ، ونزوله في جنات عدن أو في الفردوس الأعلى فكذلك يتبع أصناف الإيمان ; لأن الإيمان إيمانان : تقليدي كإيمان العوام يصدقون بما يستمعون ويستمرون عليه ، وإيمان كشفي يحصل بانشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره ; إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله فهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى ، وهم على غاية القرب من الملأ الأعلى وهم أيضا على أصناف فمنهم السابقون ومنهم من دونهم وتفاوتهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى ودرجات العارفين في المعرفة بالله تعالى لا تنحصر إذ الإحاطة بكلمة جلال الله غير ممكنة وبحر المعرفة ليس له ساحل وعمق وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم وبقدر ما سبق لهم من الله تعالى في الأزل ، فالطريق إلى الله تعالى لا نهاية لمنازله فالسالكون سبيل ، الله لا نهاية لدرجاتهم وأما
nindex.php?page=treesubj&link=30401_29468المؤمن إيمانا تقليديا فمن أصحاب اليمين ، ودرجته دون درجة المقربين ، وهم أيضا على درجات .
فالأعلى من درجات أصحاب اليمين تقارب رتبته رتبة الأدنى من درجات المقربين ، هذا حال من اجتنب كل الكبائر ، وأدى الفرائض كلها أعني الأركان الخمسة التي هي النطق بكلمة الشهادة باللسان ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج فأما من ارتكب كبيرة أو كبائر أو أهمل بعض أركان الإسلام فإن تاب توبة نصوحا قبل قرب الأجل التحق بمن لم يرتكب ذنبا; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلا ، وإن مات قبل التوبة فهذا أمر مخطر عند الموت إذ ربما يكون موته على الإصرار سببا لتزلزل إيمانه فيختم له بسوء الخاتمة لا سيما إذا كان إيمانه تقليديا .
فإن التقليد وإن كان جزما فهو قابل للانحلال بأدنى شك وخيال ، والعارف البصير أبعد أن يخاف عليه سوء الخاتمة ، وكلاهما إن ماتا على الإيمان يعذبان إلا أن يعفو الله عذابا يزيد على عذاب المناقشة في الحساب ، وتكون كثرة العقاب من حيث المدة بحسب كثرة مدة الإصرار ، ومن حيث الشدة بحسب قبح الكبائر ، ومن حيث اختلاف النوع بحسب اختلاف أصناف السيئات ، وعند انقضاء مدة العذاب ينزل البله المقلدون في درجات أصحاب اليمين ، والعارفون المستبصرون في أعلى عليين ففي الخبر :
آخر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف فلا تظن أن المراد به تقديره بالمساحة لأطراف الأجسام كان يقابل فرسخ بفرسخين ، أو عشرة بعشرين فإن هذا جهل بطريق ضرب الأمثال ، بل هذا كقول القائل : أخذ منه جملا وأعطاه عشرة أمثاله ، وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فأعطاه مائة دينار فإن لم يفهم من المثل إلا المثل في الوزن والثقل فلا تكون مائة دينار لو ; وضعت في كفة الميزان والجمل ، في الكفة الأخرى عشر عشيره ، بل هو موازنة معاني الأجسام وأرواحها دون أشخاصها وهياكلها فإن الجمل لا يقصد لثقله وطوله وعرضه ومساحته بل لماليته فروحه المالية ، وجسمه اللحم ، والدم ومائة دينار عشرة أمثاله بالموازنة الروحانية لا بالموازنة الجسمانية ، وهذا صادق عند من يعرف روح المالية من الذهب والفضة ، بل لو أعطاه جوهرة وزنها مثقال وقيمتها مائة دينار ، وقال أعطيته عشرة أمثاله كان صادقا ، ولكن لا يدرك صدقه إلا الجوهريون فإن روح الجوهرية لا تدرك بمجرد البصر ، بل بفطنة أخرى وراء البصر فلذلك يكذب به الصبي بل القروي والبدوي ويقول ما هذه الجوهرة إلا حجر وزنه مثقال ، ووزن الجمل ألف ألف مثقال فقد كذب في قوله : إني أعطيته عشرة أمثاله ، والكاذب بالتحقيق هو الصبي ، ولكن لا سبيل إلى تحقيق ذلك عنده إلا بأن ينتظر به البلوغ والكمال وأن يحصل في قلبه النور الذي يدرك به أرواح الجواهر وسائر الأموال فعند ذلك ينكشف له الصدق والعارف عاجز عن تفهيم المقلد القاصر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الموازنة إذ يقول صلى الله عليه وسلم
الجنة في السموات كما ورد في الأخبار والسموات من الدنيا ، فكيف يكون عشرة أمثال الدنيا في الدنيا ، وهذا كما يعجز البالغ عن تفهيم الصبي تلك الموازنة ، وكذلك تفهيم البدوي وكما أن الجوهري مرحوم إذا بلي بالبدوي والقروي في تفهيم تلك الموازنة ، فالعارف مرحوم إذ يلى بالبليد الأبلة في تفهيم هذه الموازنة ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :
« ارحموا ثلاثة : عالما بين الجهال ، وغني قوم افتقر ، وعزيز قوم ذل » والأنبياء مرحومون بين الأمة بهذا السبب ، ومقاساتهم لقصور عقول الأمة فتنة لهم وامتحان وابتلاء من الله وبلاء موكل بهم سبق بتوكيله القضاء الأزلي ، وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=682245« البلاء موكل بالأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل » فلا تظنن أن البلاء بلاء
أيوب عليه السلام ، وهو الذي ينزل بالبدن فإن بلاء
نوح عليه السلام أيضا من البلاء العظيم إذ بلي بجماعة كان لا يزيدهم دعاؤه إلى الله إلا فرارا ولذلك لما تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام بعض الناس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652917رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر .
فإذن لا تخلو الأنبياء عن الابتلاء بالجاحدين ولا تخلو
nindex.php?page=treesubj&link=28805_26376_19576الأولياء والعلماء عن الابتلاء بالجاهلين ، ولذلك قلما ينفك الأولياء عن ضروب من الإيذاء وأنواع البلاء بالإخراج من البلاد والسعاية بهم إلى السلاطين والشهادة عليهم بالكفر والخروج عن الدين وواجب أن يكون أهل المعرفة عند أهل الجهل من الكافرين كما يجب أن يكون المعتاض عن الجمل الكبير جوهرة صغيرة عند الجاهلين من المبذرين المضيعين فإذا عرفت هذه الدقائق فآمن بقوله عليه الصلاة والسلام أنه يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات وإياك أن تقتصر بتصديقك على ما يدركه البصر والحواس فقط فتكون حمارا برجلين ; لأن الحمار يشاركك في الحواس الخمس وإنما أنت مفارق للحمار بسر إلهي عرض على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه فإدراك ما يخرج عن عالم الحواس الخمس لا يصادف إلا في عالم ذلك السر الذي فارقت به الحمار وسائر البهائم فمن ذهل عن ذلك وعطله وأهمله ، وقنع بدرجة البهائم ، ولم يجاوز المحسوسات فهو الذي أهلك نفسه بتعطيلها ونسيها بالإعراض عنها
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=19ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فكل من لم يعرف إلا المدرك بالحواس فقد نسي الله إذ ليس ذات الله مدركا في هذا العالم بالحواس الخمس ، وكل من نسي الله أنساه الله لا محالة نفسه ، ونزل إلى رتبة البهائم وترك الترقي إلى الأفق الأعلى ، وخان في الأمانة التي أودعه الله تعالى وأنعم عليه كافرا لأنعمه ، ومتعرضا لنقمته إلا أنه أسوأ حالا من البهيمة فإن البهيمة تتخلص بالموت وأما هذا فعنده أمانة سترجع لا محالة إلى مودعها فإليه مرجع الأمانة ، ومصيرها وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة وإنما هبطت إلى هذه القالب الفاني وغربت فيه وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها ، وتعود إلى بارئها وخالقها ، إما مظلمة منكسفة ، وإما زاهرة مشرقة ، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية والمظلمة ، أيضا راجعة إلى الحضرة إذ المرجع والمصير للكل إليه إلا أنها ناكسة رأسها عن جهة أعلى عليين إلى جهة أسفل سافلين ، ولذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم فبين أنهم عند ربهم إلا أنهم منكوسون قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم وانتكست رءوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل ، وذلك حكم الله فيمن حرمه توفيقه ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول إلى منازل الجهال ، فهذا
nindex.php?page=treesubj&link=30444حكم انقسام من يخرج من النار ويعطى مثل عشرة أمثال الدنيا أو أكثر ، ولا يخرج من النار إلا موحد ، ولست أعني بالتوحيد أن : يقول بلسانه : لا إله إلا الله ، فإن اللسان من عالم الملك والشهادة فلا ينفع إلا في عالم الملك فيدفع السيف عن رقبته وأيدي الغانمين عن ماله ومدة الرقبة والمال مدة الحياة فحيث لا تبقى رقبة ولا مال لا ينفع القول باللسان ، وإنما ينفع الصدق في التوحيد ، وكمال التوحيد أن لا يرى الأمور كلها إلا من الله وعلامته أن لا يغضب على أحد من الخلق بما يجري عليه إذ لا يرى الوسائط وإنما يرى مسبب الأسباب كما سيأتي تحقيقه في التوكل وهذا التوحيد متفاوت فمن الناس من له من التوحيد مثل الجبال ومنهم من له مثقال ومنهم من له مقدار خردلة وذرة فمن في قلبه مثقال دينار من إيمان فهو أول من يخرج من النار ، وفي الخبر يقال :
أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان وآخر من يخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وما بين المثقال والذرة على قدر تفاوت درجاتهم يخرجون بين طبقة المثقال وبين طبقة الذرة والموازنة بالمثقال والذرة على سبيل ضرب المثل كما ذكرنا في الموازنة بين أعيان الأموال وبين النقود ،
nindex.php?page=treesubj&link=30433_30439_19712_30437وأكثر ما يدخل الموحدين النار مظالم العباد فديوان العباد هو الديوان الذي لا يترك فأما بقية السيئات فيتسارع العفو والتكفير إليها .
ففي الأثر إن العبد ليوقف بين يدي الله تعالى وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة ، فيقوم أصحاب المظالم فيكون قد سب عرض هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا فيقضى من حسناته حتى لا تبقى له حسنة ، فتقول الملائكة : يا ربنا هذا قد فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير ، فيقول الله تعالى ألقوا من سيئاتهم على سيئاته ، وصكوا له صكا إلى النار وكما يهلك هو بسيئة غيره بطريق القصاص ، فكذلك ينجو المظلوم بحسنة الظالم ، إذ ينقل إليه عوضا عما ظلم به وقد حكي عن ابن الجلاء أن بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه يستحله فقال : لا أفعل ليس في صحيفتي حسنة أفضل منها فكيف أمحوها وقال هو وغيره : ذنوب إخواني من حسناتي أريد أن أزين بها صحيفتي فهذا ما أردنا أن نذكره من اختلاف العباد في المعاد في درجات السعادة والشقاوة ، وكل ذلك حكم بظاهر أسباب يضاهي حكم الطبيب على مريض بأنه يموت لا محالة ، ولا يقبل العلاج وعلى مريض آخر بأن عارضه خفيف ، وعلاجه هين فإن ذلك ظن يصيب في أكثر الأحوال ولكن قد تثوب إلى المشرف على الهلاك نفسه من حيث لا يشعر الطبيب ، وقد يساق إلى ذي العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه ، وذلك من أسرار الله تعالى الخفية في أرواح الأحياء وغموض الأسباب التي رتبها مسبب الأسباب بقدر معلوم إذ ليس في قوة البشر الوقوف على كنهها فكذلك النجاة والفوز في الآخرة لهما أسباب خفية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها ، يعبر عن ذلك السبب الخفي المفضي إلى النجاة بالعفو والرضا عما ، يفضي إلى الهلاك بالغضب والانتقام ، ووراء ذلك سر المشيئة الإلهية الأزلية التي لا يطلع الخلق عليها فلذلك يجب علينا أن نجوز العفو عن المعاصي ، وإن كثرت سيئاته الظاهرة والغضب على المطيع ، وإن كثرت طاعاته الظاهرة ، فإن الاعتماد على التقوى والتقوى في القلب ، وهو أغمض من أن يطلع عليه صاحبه فكيف غيره ، ولكن قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد إلا بسبب خفي فيه يقتضي العفو ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضي البعد عن الله تعالى ، ولولا ذلك لم يكن العفو والغضب جزاء على الأعمال والأوصاف ولو لم يكن جزاء لم يكن عدلا ، ولو لم يكن عدلا لم يصح قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وما ربك بظلام للعبيد ، ولا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وكل ذلك صحيح فليس للإنسان إلا ما سعى ، وسعيه هو الذي يرى و
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=38كل نفس بما كسبت رهينة nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ولما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم تحقيقا لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وهذا كله قد انكشف لأرباب القلوب انكشافا أوضح من المشاهدة بالبصر ، إذ للبصر يمكن الغلط فيه ; إذ قد يرى البعيد قريبا والكبير صغيرا ومشاهدة القلب لا يمكن الغلط فيها وإنما الشأن في انفتاح بصيرة القلب ، وإلا فما يرى بها بعد الانفتاح فلا يتصور فيه الكذب وإليه الإشارة بقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=11ما كذب الفؤاد ما رأى .
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=29428_28675رُتْبَةُ الْمُعَذَّبِينَ ، وَهَذِهِ رُتْبَةُ مَنْ تَحَلَّى بِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ قَصْرَ فِي الْوَفَاءِ بِمُقْتَضَاهُ ، فَإِنَّ رَأْسَ الْإِيمَانِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَهُوَ أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ فَقَدِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فَهُوَ مُوَحِّدٌ بِلِسَانِهِ لَا بِالْحَقِيقَةِ بَلْ مَعْنَى قَوْلِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهُوَ أَنْ تَذَرَ فِي الْكُلِّيَّةِ غَيْرَ اللَّهِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=30الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا وَلَمَّا كَانَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا يَكْمُلُ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ ، مِثْلَ الصِّرَاطِ الْمَوْصُوفِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَنْفَكُّ بَشَرٌ عَنِ مَيْلِ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ ، وَلَوْ فِي أَمْرٍ يَسِيرٍ إِذْ لَا يَخْلُو عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَلَوْ فِي فِعْلٍ قَلِيلٍ ، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي كَمَالِ التَّوْحِيدِ بِقَدْرِ مَيْلِهِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَذَلِكَ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ نُقْصَانًا فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ ، وَمَعَ كُلِّ نُقْصَانٍ نَارَانِ نَارُ الْفِرَاقِ لِذَلِكَ الْكَمَالِ الْفَائِتِ بِالنُّقْصَانِ ، وَنَارُ جَهَنَّمَ كَمَا وَصَفَهَا الْقُرْآنُ فَيَكُونُ كُلُّ مَائِلٍ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مُعَذَّبًا مَرَّتَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَكِنَّ شِدَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ وَخِفَّتَهُ وَتَفَاوُتَهُ بِحَسَبِ طُولِ الْمُدَّةِ ، إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَضَعْفُهُ ، وَالثَّانِي كَثْرَةُ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَقِلَّتُهُ وَإِذْ ; لَا يَخْلُو بَشَرٌ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=71وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=72ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَائِفُونَ مِنَ السَّلَفِ : إِنَّمَا خَوْفُنَا لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّا عَلَى النَّارِ وَارِدُونَ وَشَكَكْنَا فِي النَّجَاةِ وَلَمَّا رَوَى
الْحَسَنُ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ وَأَنَّهُ يُنَادِي يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ ، قَالَ
الْحَسَنُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30444آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمُدَّةِ بَيْنَ اللَّحْظَةِ وَبَيْنَ سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ حَتَّى قَدْ يَجُوزُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّارِ كَبَرْقٍ خَاطِفٍ ، وَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا لُبْثٌ وَبَيْنَ اللَّحْظَةِ وَبَيْنَ سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ مِنَ الْيَوْمِ وَالْأُسْبُوعِ وَالشَّهْرِ وَسَائِرِ الْمُدَدِ وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِالشِّدَّةِ لَا نِهَايَةَ لِأَعْلَاهُ ، وَأَدْنَاهُ التَّعْذِيبُ بِالْمُنَاقَشَةِ فِي الْحِسَابِ كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ قَدْ يُعَذِّبُ بَعْضَ الْمُقَصِّرِينَ فِي الْأَعْمَالِ بِالْمُنَاقَشَةِ فِي الْحِسَابِ ثُمَّ يَعْفُو وَقَدْ يَضْرِبُ بِالسِّيَاطِ وَقَدْ يُعَذِّبُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَى الْعَذَابِ اخْتِلَافٌ ثَالِثٌ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ وَالشَّدَّةِ ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْأَنْوَاعِ ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُعَذِّبُ بِمُصَادَرَةِ الْمَالِ فَقَطْ كَمَنْ يُعَذَّبُ بِأَخْذِ الْمَالِ ، وَقَتْلِ الْوَلَدِ ، وَاسْتِبَاحَةِ الْحَرِيمِ ، وَتَعْذِيبِ الْأَقَارِبِ وَالضَّرْبِ .
وَقَطْعِ اللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَغَيْرِهِ ، فَهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ ثَابِتَةٌ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ دَلَّ عَلَيْهَا قَوَاطِعُ الشَّرْعِ ، وَهِيَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ ، وَكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ وَقِلَّتِهَا وَكَثْرَةِ السَّيِّئَاتِ وَقِلَّتِهَا ، أَمَّا شِدَّةُ الْعَذَابِ ، فَبِشِدَّةِ قُبْحِ السَّيِّئَاتِ وَكَثْرَتِهَا ، وَأَمَّا كَثْرَتُهُ فَبِكَثْرَتِهَا وَأَمَّا اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ فَبِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ السَّيِّئَاتِ ، وَقَدِ انْكَشَفَ هَذَا لِأَرْبَابِ الْقُلُوبِ مَعَ شَوَاهِدِ الْقُرْآنِ بِنُورِ الْإِيمَانِ ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=17الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=7فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=8وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ كَوْنِ
nindex.php?page=treesubj&link=29468الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِعَدْلٍ لَا ظُلْمَ فِيهِ وَجَانِبُ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ أَرْجَحُ إِذْ قَالَ تَعَالَى : فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687843سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، فَإِذَنْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ مِنِ
nindex.php?page=treesubj&link=28846_29468_30437_30438ارْتِبَاطِ الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مَعْلُومَةٌ بِقَوَاطِعِ الشَّرْعِ وَنُورُ الْمَعْرِفَةِ فَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا ظَنًّا وَمُسْتَنَدُهُ ظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ ، وَنَوْعُ حَدْسٍ يُسْتَمَدُّ مِنْ أَنْوَارِ الِاسْتِبْصَارِ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ فَنَقُولُ : كُلُّ مَنْ أَحْكَمَ أَصْلَ الْإِيمَانِ ، وَاجْتَنَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ ، وَأَحْسَنَ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ أَعْنِي الْأَرْكَانَ الْخَمْسَةَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَّا صَغَائِرُ مُتَفَرِّقَةٌ لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُ الْمُنَاقَشَةَ فِي الْحِسَابِ فَقَطْ ، فَإِنَّهُ إِذَا حُوسِبَ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ ; إِذْ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ إِنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَة وَالْجُمْعَةَ وَصَوْمَ رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=30524اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ بِحُكْمِ نَصِّ الْقُرْآنِ مُكَفِّرًا لِلصَّغَائِرِ وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ التَّكْفِيرِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَذَابَ إِنْ لَمْ يَدْفَعِ الْحِسَابَ ، وَكُلُّ مَنْ هَذَا حَالُهُ فَقَدْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ظُهُورِ الرُّجْحَانِ فِي الْمِيزَانِ ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحِسَابِ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ نَعَمِ الْتِحَاقُهُ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ أَوْ بِالْمُقَرَّبِينَ ، وَنُزُولُهُ فِي جَنَّات عَدْنٍ أَوْ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى فَكَذَلِكَ يَتْبَعُ أَصْنَافَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِيمَانَانِ : تَقْلِيدِيٌّ كَإِيمَانِ الْعَوَامِّ يُصَدِّقُونَ بِمَا يَسْتَمِعُونَ وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ ، وَإِيمَانٌ كَشْفِيٌّ يَحْصُلُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِنُورِ اللَّهِ حَتَّى يَنْكَشِفَ فِيهِ الْوُجُودُ كُلُّهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيَتَّضِحُ أَنَّ الْكُلَّ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُ وَمَصِيرُهُ ; إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ فَهَذَا الصِّنْفُ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ النَّازِلُونَ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى ، وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَهُمْ أَيْضًا عَلَى أَصْنَافٍ فَمِنْهُمُ السَّابِقُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ دُونَهُمْ وَتَفَاوُتُهُمْ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَدَرَجَاتُ الْعَارِفِينَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْحَصِرُ إِذِ الْإِحَاطَةُ بِكَلِمَةِ جَلَالِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ وَبَحْرُ الْمَعْرِفَةِ لَيْسَ لَهُ سَاحِلٌ وَعُمْقٌ وَإِنَّمَا يَغُوصُ فِيهِ الْغَوَّاصُونَ بِقَدْرِ قُوَاهُمْ وَبِقَدْرِ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ ، فَالطَّرِيقُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا نِهَايَةَ لِمَنَازِلِهِ فَالسَّالِكُونَ سَبِيلَ ، اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لِدَرَجَاتِهِمْ وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=30401_29468الْمُؤْمِنُ إِيمَانًا تَقْلِيدِيًّا فَمِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، وَدَرَجَتُهُ دُونَ دَرَجَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، وَهُمْ أَيْضًا عَلَى دَرَجَاتٍ .
فَالْأَعْلَى مِنْ دَرَجَاتِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ تُقَارِبُ رُتْبَتُهُ رُتْبَةَ الْأَدْنَى مِنْ دَرَجَاتِ الْمُقَرَّبِينَ ، هَذَا حَالُ مَنِ اجْتَنَبَ كُلَّ الْكَبَائِرِ ، وَأَدَّى الْفَرَائِضَ كُلَّهَا أَعْنِي الْأَرْكَانَ الْخَمْسَةَ الَّتِي هِيَ النُّطْقُ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالزَّكَاةُ ، وَالصَّوْمُ ، وَالْحَجُّ فَأَمَّا مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ أَوْ أَهْمَلَ بَعْضَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ قُرْبِ الْأَجَلِ الْتَحَقَ بِمَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ ذَنْبًا; لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَالثَّوْبُ الْمَغْسُولُ كَالَّذِي لَمْ يَتَوَسَّخْ أَصْلًا ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَهَذَا أَمْرٌ مُخْطِرٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إِذْ رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُهُ عَلَى الْإِصْرَارِ سَبَبًا لِتَزَلْزُلِ إِيمَانِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ إِيمَانُهُ تَقْلِيدِيًّا .
فَإِنَّ التَّقْلِيدَ وَإِنْ كَانَ جَزْمًا فَهُوَ قَابِلٌ لِلِانْحِلَالِ بِأَدْنَى شَكٍّ وَخَيَالٍ ، وَالْعَارِفُ الْبَصِيرُ أَبْعَدُ أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ سُوءُ الْخَاتِمَةِ ، وَكِلَاهُمَا إِنْ مَاتَا عَلَى الْإِيمَانِ يُعَذَّبَانِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَذَابًا يَزِيدُ عَلَى عَذَابِ الْمُنَاقَشَةِ فِي الْحِسَابِ ، وَتَكُونُ كَثْرَةُ الْعِقَابِ مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ مُدَّةِ الْإِصْرَارِ ، وَمِنْ حَيْثُ الشِّدَّةُ بِحَسَبِ قُبْحِ الْكَبَائِرِ ، وَمِنْ حَيْثُ اخْتِلَافُ النَّوْعِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَصْنَافِ السَّيِّئَاتِ ، وَعِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعَذَابِ يَنْزِلُ الْبُلْهُ الْمُقَلِّدُونَ فِي دَرَجَاتِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، وَالْعَارِفُونَ الْمُسْتَبْصِرُونَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ فَفِي الْخَبَرِ :
آخِرُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ يُعْطَى مِثْلَ الدُّنْيَا كُلِّهَا عَشَرَةَ أَضْعَافٍ فَلَا تَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَقْدِيرُهُ بِالْمِسَاحَةِ لِأَطْرَافِ الْأَجْسَامِ كَانَ يُقَابَلَ فَرْسَخٌ بِفَرْسَخَيْنِ ، أَوْ عَشَرَةُ بِعِشْرِينَ فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ بِطَرِيقِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ ، بَلْ هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ : أَخَذَ مِنْهُ جَمَلًا وَأَعْطَاهُ عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ ، وَكَانَ الْجَمَلُ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنَ الْمِثْلِ إِلَّا الْمِثْلُ فِي الْوَزْنِ وَالثِّقْلِ فَلَا تَكُونُ مِائَةُ دِينَارٍ لَوْ ; وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَالْجَمَلُ ، فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى عُشْرَ عُشَيْرِهِ ، بَلْ هُوَ مُوَازَنَةُ مَعَانِي الْأَجْسَامِ وَأَرْوَاحُهَا دُونَ أَشْخَاصِهَا وَهَيَاكِلِهَا فَإِنَّ الْجَمَلَ لَا يُقْصَدُ لِثِقَلِهِ وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ وَمِسَاحَتِهِ بَلْ لِمَالِيَّتِهِ فَرُوحُهُ الْمَالِيَّةُ ، وَجِسْمُهُ اللَّحْمُ ، وَالدَّمُ وَمِائَةُ دِينَارٍ عَشَرَةُ أَمْثَالِهِ بِالْمُوَازَنَةِ الرُّوحَانِيَّةِ لَا بِالْمُوَازَنَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ ، وَهَذَا صَادِقٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ رُوحَ الْمَالِيَّةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، بَلْ لَوْ أَعْطَاهُ جَوْهَرَةً وَزْنُهَا مِثْقَالٌ وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ ، وَقَالَ أَعْطَيْتُهُ عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ كَانَ صَادِقًا ، وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ صِدْقَهُ إِلَّا الْجَوْهَرِيُّونَ فَإِنَّ رُوحَ الْجَوْهَرِيَّةِ لَا تُدْرِكُ بِمُجَرَّدِ الْبَصَرِ ، بَلْ بِفَطِنَةٍ أُخْرَى وَرَاءَ الْبَصَرِ فَلِذَلِكَ يُكَذِّبُ بِهِ الصَّبِيُّ بَلِ الْقَرَوِيُّ وَالْبَدَوِيُّ وَيَقُولُ مَا هَذِهِ الْجَوْهَرَةُ إِلَّا حَجَرٌ وَزْنُهُ مِثْقَالٌ ، وَوَزْنُ الْجَمَلِ أَلْفُ أَلْفِ مِثْقَالٍ فَقَدْ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ : إِنِّي أَعْطَيْتُهُ عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ ، وَالْكَاذِبُ بِالتَّحْقِيقِ هُوَ الصَّبِيُّ ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِلَّا بِأَنْ يَنْتَظِرَ بِهِ الْبُلُوغَ وَالْكَمَالَ وَأَنْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ النُّورُ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ أَرْوَاحَ الْجَوَاهِرِ وَسَائِرَ الْأَمْوَالِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لَهُ الصِّدْقُ وَالْعَارِفُ عَاجِزٌ عَنْ تَفْهِيمِ الْمُقَلِّدِ الْقَاصِرِ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمُوَازَنَةِ إِذْ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْجَنَّةُ فِي السَّمَوَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالسَّمَوَاتِ مِنَ الدُّنْيَا ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَشَرَةُ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فِي الدُّنْيَا ، وَهَذَا كَمَا يَعْجِزُ الْبَالِغُ عَنْ تَفْهِيمِ الصَّبِيِّ تِلْكَ الْمُوَازَنَةَ ، وَكَذَلِكَ تَفْهِيمُ الْبَدَوِيِّ وَكَمَا أَنَّ الْجَوْهَرِيَّ مَرْحُومٌ إِذَا بُلِيَ بِالْبَدَوِيِّ وَالْقَرَوِيِّ فِي تَفْهِيمِ تِلْكَ الْمُوَازَنَةِ ، فَالْعَارِفُ مَرْحُومٌ إِذْ يلى بِالْبَلِيدِ الْأُبُلَّة فِي تَفْهِيمِ هَذِهِ الْمُوَازَنَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
« ارْحَمُوا ثَلَاثَةً : عَالِمًا بَيْنَ الْجُهَّالِ ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افْتَقَرَ ، وَعَزِيزَ قَوْمٍ ذُلَّ » وَالْأَنْبِيَاءُ مَرْحُومُونَ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِهَذَا السَّبَبِ ، وَمُقَاسَاتُهُمْ لِقُصُورِ عُقُولِ الْأُمَّةِ فِتْنَةٌ لَهُمْ وَامْتِحَانٌ وَابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ وَبَلَاءٌ مُوَكَّلٌ بِهِمْ سَبَقَ بِتَوْكِيلِهِ الْقَضَاءُ الْأَزَلِيُّ ، وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=682245« الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْأَنْبِيَاءِ ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءِ ، ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ » فَلَا تَظْنُنَّ أَنَّ الْبَلَاءَ بَلَاءُ
أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْبَدَنِ فَإِنَّ بَلَاءَ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ إِذْ بُلِيَ بِجَمَاعَةٍ كَانَ لَا يَزِيدُهُمْ دُعَاؤُهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا فِرَارًا وَلِذَلِكَ لَمَّا تَأَذَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652917رَحِمَ اللَّهُ أَخِي مُوسَى لَقَدِ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ .
فَإِذَنْ لَا تَخْلُو الْأَنْبِيَاءُ عَنِ الِابْتِلَاءِ بِالْجَاحِدِينَ وَلَا تَخْلُو
nindex.php?page=treesubj&link=28805_26376_19576الْأَوْلِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ عَنِ الِابْتِلَاءِ بِالْجَاهِلِينَ ، وَلِذَلِكَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ الْأَوْلِيَاءُ عَنْ ضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْبِلَادِ وَالسِّعَايَةِ بِهِمْ إِلَى السَّلَاطِينِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الدِّينِ وَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ مِنَ الْكَافِرِينَ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَاضُ عَنِ الْجَمَلِ الْكَبِيرِ جَوْهَرَةً صَغِيرَةً عِنْدَ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ الْمُضَيِّعِينَ فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فَآمِنْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ يُعْطَى آخِرُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مَرَّاتٍ وَإِيَّاكَ أَنْ تَقْتَصِرُ بِتَصْدِيقِكَ عَلَى مَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ وَالْحَوَاسُّ فَقَطْ فَتَكُونُ حِمَارًا بِرِجْلَيْنِ ; لِأَنَّ الْحِمَارَ يُشَارِكُكَ فِي الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَإِنَّمَا أَنْتَ مُفَارِقٌ لِلْحِمَارِ بِسِرٍّ إِلَهِيٍّ عُرِضَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهُ وَأَشْفَقْنَ مِنْهُ فَإِدْرَاكُ مَا يَخْرُجُ عَنْ عَالِمِ الْحَوَّاسِ الْخَمْسِ لَا يُصَادَفُ إِلَّا فِي عَالَمِ ذَلِكَ السِّرِّ الَّذِي فَارَقْتَ بِهِ الْحِمَارَ وَسَائِرَ الْبَهَائِمِ فَمَنْ ذَهَلَ عَنْ ذَلِكَ وَعَطَّلَهُ وَأَهْمَلَهُ ، وَقَنِعَ بِدَرَجَةِ الْبَهَائِمِ ، وَلَمْ يُجَاوِزِ الْمَحْسُوسَاتِ فَهُوَ الَّذِي أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِتَعْطِيلِهَا وَنَسْيِهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=19وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إِلَّا الْمُدْرَكَ بِالْحَوَاسِّ فَقَدْ نَسِيَ اللَّهَ إِذْ لَيْسَ ذَاتُ اللَّهِ مُدْرَكًا فِي هَذَا الْعَالَمِ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ ، وَكُلُّ مَنْ نَسِيَ اللَّهَ أَنْسَاهُ اللَّهُ لَا مَحَالَةَ نَفْسَهُ ، وَنَزَلَ إِلَى رُتْبَةِ الْبَهَائِمِ وَتَرَكَ التَّرَقِّيَ إِلَى الْأُفُقِ الْأَعْلَى ، وَخَانَ فِي الْأَمَانَةِ الَّتِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ كَافِرًا لِأَنْعُمِهِ ، وَمُتَعَرِّضًا لِنِقْمَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهِيمَةِ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تَتَخَلَّصُ بِالْمَوْتِ وَأَمَّا هَذَا فَعِنْدَهُ أَمَانَةٌ سَتَرْجِعُ لَا مَحَالَةَ إِلَى مُودِعِهَا فَإِلَيْهِ مَرْجِعُ الْأَمَانَةِ ، وَمَصِيرُهَا وَتِلْكَ الْأَمَانَةُ كَالشَّمْسِ الزَّاهِرَةِ وَإِنَّمَا هَبَطَتْ إِلَى هَذِهِ الْقَالَبِ الْفَانِي وَغَرَبَتْ فِيهِ وَسَتَطْلُعُ هَذِهِ الشَّمْسُ عِنْدَ خَرَابِ هَذَا الْقَالَبِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَتَعُودُ إِلَى بَارِئِهَا وَخَالِقِهَا ، إِمَّا مُظْلِمَةً مُنْكَسِفَةً ، وَإِمَّا زَاهِرَةً مُشْرِقَةً ، وَالزَّاهِرَةُ الْمُشْرِقَةُ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ عَنِ حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمَظْلَمَةُ ، أَيْضًا رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَضْرَةِ إِذِ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ لِلْكُلِّ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهَا نَاكِسَةٌ رَأْسُهَا عَنْ جِهَةِ أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى جِهَةِ أَسْفَلِ سَافِلِينَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مَنْكُوسُونَ قَدِ انْقَلَبَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى أَقْفِيَتِهِمْ وَانْتَكَسَتْ رُءُوسُهُمْ عَنْ جِهَةِ فَوْقٍ إِلَى جِهَةِ أَسْفَلَ ، وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ حَرَمَهُ تَوْفِيقَهُ وَلَمْ يَهْدِهِ طَرِيقَهُ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالنُّزُولِ إِلَى مَنَازِلِ الْجُهَّالِ ، فَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=30444حُكْمُ انْقِسَامِ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ وَيُعْطَى مِثْلَ عَشَرَةٍ أَمْثَالِ الدُّنْيَا أَوْ أَكْثَرَ ، وَلَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ إِلَّا مُوَحِّدٌ ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِالتَّوْحِيدِ أَنْ : يَقُولَ بِلِسَانِهِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ اللِّسَانَ مِنْ عَالَمِ الْمُلْكِ وَالشَّهَادَةِ فَلَا يَنْفَعُ إِلَّا فِي عَالَمِ الْمُلْكِ فَيُدْفَعُ السَّيْفُ عَنْ رَقَبَتِهِ وَأَيْدِي الْغَانِمِينَ عَنْ مَالِهِ وَمُدَّةُ الرَّقَبَةِ وَالْمَالِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ فَحَيْثُ لَا تَبْقَى رَقَبَةٌ وَلَا مَالٌ لَا يَنْفَعُ الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الصِّدْقُ فِي التَّوْحِيدِ ، وَكَمَالُ التَّوْحِيدِ أَنْ لَا يَرَى الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَعَلَامَتُهُ أَنْ لَا يَغْضَبَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِذْ لَا يَرَى الْوَسَائِطَ وَإِنَّمَا يَرَى مُسَبِّبَ الْأَسْبَابِ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي التَّوَكُّلِ وَهَذَا التَّوْحِيدُ مُتَفَاوِتٌ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ مِثْلُ الْجِبَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ مِثْقَالٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ مِقْدَارُ خَرْدَلَةٍ وَذَرَّةٍ فَمَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ ، وَفِي الْخَبَرِ يُقَالُ :
أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ وَآخَرَ مَنْ يَخْرُجُ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ وَمَا بَيْنَ الْمِثْقَالِ وَالذَّرَّةِ عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ يَخْرُجُونَ بَيْنَ طَبَقَةِ الْمِثْقَالِ وَبَيْنَ طَبَقَةِ الذَّرَّةِ وَالْمُوَازَنَةُ بِالْمِثْقَالِ وَالذَّرَّةِ عَلَى سَبِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ أَعْيَانِ الْأَمْوَالِ وَبَيْنَ النُّقُودِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=30433_30439_19712_30437وَأَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْمُوَحِّدِينَ النَّارَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ فَدِيوَانُ الْعِبَادِ هُوَ الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ فَأَمَّا بَقِيَّةُ السَّيِّئَاتِ فَيَتَسَارَعُ الْعَفْوُ وَالتَّكْفِيرُ إِلَيْهَا .
فَفِي الْأَثَرِ إِنَّ الْعَبْدَ لَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ لَوْ سَلِمَتْ لَهُ لَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيَقُومُ أَصْحَابُ الْمَظَالِمِ فَيَكُونُ قَدْ سَبَّ عِرْضَ هَذَا وَأَخَذَ مَالَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُقْضَى مِنْ حَسَنَاتِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ حَسَنَةٌ ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : يَا رَبَّنَا هَذَا قَدْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ ، وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَلْقُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِ ، وَصُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ وَكَمَا يَهْلَكُ هُوَ بِسَيِّئَةِ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ ، فَكَذَلِكَ يَنْجُو الْمَظْلُومُ بِحَسَنَةِ الظَّالِمِ ، إِذْ يَنْقُلُ إِلَيْهِ عِوَضًا عَمَّا ظُلِمَ بِهِ وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْجَلَّاءِ أَنَّ بَعْضَ إِخْوَانِهِ اغْتَابَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْتَحِلُّهُ فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ لَيْسَ فِي صَحِيفَتِي حَسَنَةٌ أَفْضَلُ مِنْهَا فَكَيْفَ أَمْحُوهَا وَقَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ : ذُنُوبُ إِخْوَانِي مِنْ حَسَنَاتِي أُرِيدُ أَنْ أُزَيِّنَ بِهَا صَحِيفَتِي فَهَذَا مَا أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَادِ فِي دَرَجَاتِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِظَاهِرِ أَسْبَابٍ يُضَاهِي حُكْمَ الطَّبِيبِ عَلَى مَرِيضٍ بِأَنَّهُ يَمُوتُ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ وَعَلَى مَرِيضٍ آخَرَ بِأَنَّ عَارِضَهُ خَفِيفٌ ، وَعِلَاجَهُ هَيِّنٌ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَنٌّ يُصِيبُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ وَلَكِنْ قَدْ تَثُوبُ إِلَى الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ نَفْسُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ الطَّبِيبُ ، وَقَدْ يُسَاقُ إِلَى ذِي الْعَارِضِ الْخَفِيفِ أَجَلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَفِيَّةِ فِي أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ وَغُمُوضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَتَّبَهَا مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ إِذْ لَيْسَ فِي قُوَّةِ الْبَشَرِ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِهَا فَكَذَلِكَ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ لَهُمَا أَسْبَابٌ خَفِيَّةٌ لَيْسَ فِي قُوَّةِ الْبَشَرِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا ، يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ الْخَفِيِّ الْمُفْضِي إِلَى النَّجَاةِ بِالْعَفْوِ وَالرِّضَا عَمَّا ، يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ بِالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ سِرُّ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ الْخَلْقُ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُجَوِّزَ الْعَفْوَ عَنِ الْمَعَاصِي ، وَإِنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ الظَّاهِرَةُ وَالْغَضَبَ عَلَى الْمُطِيعِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ طَاعَاتُهُ الظَّاهِرَةُ ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى التَّقْوَى وَالتَّقْوَى فِي الْقَلْبِ ، وَهُوَ أَغْمَضُ مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فَكَيْفَ غَيْرُهُ ، وَلَكِنْ قَدِ انْكَشَفَ لِأَرْبَابِ الْقُلُوبِ أَنَّهُ لَا عَفْوَ عَنْ عَبْدٍ إِلَّا بِسَبَبٍ خَفِيٍّ فِيهِ يَقْتَضِي الْعَفْوَ وَلَا غَضَبَ إِلَّا بِسَبَبٍ بَاطِنٍ يَقْتَضِي الْبُعْدَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْعَفْوُ وَالْغَضَبُ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَوْصَافِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءً لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ، وَلَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=40إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ، وَسَعْيُهُ هُوَ الَّذِي يُرَى وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=38كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَمَّا غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ غَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَدِ انْكَشَفَ لِأَرْبَابِ الْقُلُوبِ انْكِشَافًا أَوْضَحَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ بِالْبَصَرِ ، إِذِ لِلْبَصَرِ يُمْكِنُ الْغَلَطُ فِيهِ ; إِذْ قَدْ يَرَى الْبَعِيدَ قَرِيبًا وَالْكَبِيرَ صَغِيرًا وَمُشَاهَدَةُ الْقَلْبِ لَا يُمْكِنُ الْغَلَطُ فِيهَا وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي انْفِتَاحِ بَصِيرَةِ الْقَلْبِ ، وَإِلَّا فَمَا يَرَى بِهَا بَعْدَ الِانْفِتَاحِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْكَذِبُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=11مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى .