nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87nindex.php?page=treesubj&link=28973_31912_31985_31931_32426ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
انتقال من الإنحاء على
بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول
موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد
موسى مثل
يوشع وإلياس وأرمياء وداود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة ، ومن رغبة ورهبة ، ثم جاء
عيسى مؤيدا وناسخا ومبشرا فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع . وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح .
وإن قوما هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون
[ ص: 593 ] بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لما تبين لهم من بطلان ؛ فكان هذا مرتبطا بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وآمنوا بما أنزلت مصدقا ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88وقالوا قلوبنا غلف فقوله تعالى ولقد آتينا
موسى الكتاب تمهيد للمعطوف وهو قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وقفينا من بعده بالرسل الذي هو المبني عليه التعجب في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87أفكلما جاءكم رسول فقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87ولقد آتينا موسى الكتاب تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالا هنا ولكنه ذكر ليبنى عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء
موسى الكتاب وقفينا أيضا بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا .
وقفى مضاعف قفا تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه . فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأمورا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا قفى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا قفى زيدا عمرا .
فمعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87قفينا من بعده بالرسل أرسلنا رسلا وقد حذف مفعول قفينا للعلم به وهو ضمير
موسى . وقوله من بعده أي من بعد ذهابه أي موته ، وفيه إيماء إلى التسجيل على
اليهود بأن مجيء الرسل بعد
موسى ليس ببدع .
والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به تكثير قاله صاحب الكشاف أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرا دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي .
وسمي أنبياء
بني إسرائيل الذين من بعد
موسى رسلا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارا
[ ص: 594 ] بأن الله أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفا شرعيا وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلا ولا تفريعا . وقال
الباقلاني فيما نقله عنه
الفخر : لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=123وإن إلياس لمن المرسلين ، وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=139وإن يونس لمن المرسلين وما كان
عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئا قليلا وخص
عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد
موسى زيادة في التنكيل على
اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضا خصه بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وأيدناه بروح القدس ، ولأن من جاء بعد
موسى من الرسل لم يخبروا أن
جبريل جاءهم بوحي
وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة .
وعيسى اسم معرب من
يشوع أو
يسوع وهو اسم
عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبا مكانيا ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشينا والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة فلله فصاحة العربية . ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك ،
ومريم هي أم
عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى
لمريم في العربية غير العلمية ؛ إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها
مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت
بيت المقدس فلذلك يقولون امرأة
مريم أي معرضة عن صفات النساء ، كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ؛ ولذلك قال
رؤبة : "
قلت لزير لم تزره مريمه
"
فليس هو مشتقا من رام يريم كما قد يتوهم . وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء وإن كان نادرا .
[ ص: 595 ] وعيسى عليه السلام هو ابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل . وأمه
مريم ابنة عمران من سبط يهوذا .
ولد
عيسى في مدة سلطنة
أغسطس ملك
رومية وفي مدة حكم
هيردوس على
القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة 430 عشرين وستمائة قبل الهجرة المحمدية ، وكانت ولادته بقرية تعرف
ببيت لحم اليهودية ، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولا إلى
بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثة وثلاثين سنة . وأما
مريم أمه فهي
مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت
عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد
عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها ، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها
زكرياء من
بني أبيا وهو زوج
اليصابات خالة
مريم وكان كاهنا من أحبار
اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران .
والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات ، وأيدناه قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل ، ولك أن تجعله مشتقا من الأيد وهو القوة فوزنه فعل .
والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=17واذكر عبدنا داود ذا الأيد والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقا من اليد أي جعله ذا يد أي قوة ، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال قوله هو الذي أيدك بنصره . والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني الذي به حياة الإنس ، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس ، قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=85ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=91فنفخنا فيها من روحنا ويطلق على
جبريل كما في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين وهو المراد في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تنزل الملائكة والروح فيها وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=38يوم يقوم الروح والملائكة والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة . والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك [ ص: 596 ] وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن
مريم فتكون منه
عيسى وإنما كان ذلك تأييدا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة ، ويجوز أن يكون المراد به
جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا ، وفي الحديث الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341138أن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها .
وعلى كلا الوجهين فإضافة روح إلى القدس إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تئول إلى التوصيف وإلى هذا قال
التفتزاني في شرح الكشاف وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون من الوصف بالمصدر .
وقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87أفكلما جاءكم رسول هو المقصود من الكلام السابق ، وما قبله من قوله ولقد آتينا تمهيد له كما تقدم ، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع .
وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطا على العاطف والمعطوف ، وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان : إحداهما طريقة الجمهور قالوا همزة الاستفهام مقدمة من تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته ، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالا فيه ، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل ( أين ) ، ومنها حرف تحقيق وهو ( هل ) فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل " هل فعلت " " أهل فعلت " فالتقدير أفكلما جاءكم رسول فقلب ، وقيل أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام
[ ص: 597 ] معطوفا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام .
الطريقة الثانية طريقة صاحب الكشاف وفي مغني اللبيب أن
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أول القائلين بها وادعى
الدماميني أن
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ .
وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف . ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما . والظاهر من كلام صاحب الكشاف في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=165أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=75أفتطمعون أن يؤمنوا لكم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=76أفلا تعقلون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85أفتؤمنون ببعض الكتاب فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا . وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=51أثم إذا ما وقع آمنتم به في سورة يونس ، وقول
النابغة :
أثم تعذران إلي منها فإني قد سمعت وقد رأيت
وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة .
ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية
موسى بالرسل أي قفينا
موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب الكشاف كون العطف على مقدر أي آتينا
موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله أفكلما ، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرا معطوفا على المقدر المؤهل للتوبيخ ، وهو وجه بعيد ، ومرمى الوجهين إلى أن جملة آتينا
موسى الكتاب إلخ . غير مراد منها الإخبار بمدلولها . وانتصب كلما بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله استكبرتم وقدم الظرف ليكون مواليا للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في
[ ص: 598 ] بعض الرسل وفي بعض الأزمنة ، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب ، وقد دل العموم الذي في كلما على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها .
وتهوى مضارع هوي بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة .
والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعا لهم ؛ فالسين والتاء في استكبرتم للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34إلا إبليس أبى واستكبر وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقا وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=30فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولا لفعل في مقام التقسيم نحو
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم والتفصيل راجع إلى ما في قوله ( رسول ) من الإجمال لأن كلما جاءكم رسول أفاد عموم الرسول وشمل هذا
موسى عليه السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارا في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر . وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى ، وحين أمرهم بدخول
أريحا ، وغير ذلك وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل
عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل
أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه .
وأرمياء . وجاء في تقتلون بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=9والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه مع ما في صيغة تقتلون من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87nindex.php?page=treesubj&link=28973_31912_31985_31931_32426وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
انْتِقَالٌ مِنَ الْإِنْحَاءِ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي فِعَالِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قَابَلُوهُ بِهِ مِنِ الْعِصْيَانِ وَالتَّبَرُّمِ وَالتَّعَلُّلِ فِي قَبُولِ الشَّرِيعَةِ وَبِمَا خَالَفُوا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى قُرْبِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ مُقَابَلَتِهِمْ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ أَتَوْا بَعْدَ
مُوسَى مِثْلَ
يُوشَعَ وَإِلْيَاسَ وَأَرْمِيَاءَ وَدَاوُدَ مُؤَيِّدِينَ لِشَرِيعَتِهِ وَمُفَسِّرِينَ وَبَاعِثِينَ لِلْأُمَّةِ عَلَى تَجْدِيدِ الْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ مَعَ تَعَدُّدِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَاخْتِلَافِ مَشَارِبِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ لِذَلِكَ الْمَقْصِدِ مَنْ لِينٍ وَشِدَّةٍ ، وَمِنْ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ
عِيسَى مُؤَيِّدًا وَنَاسِخًا وَمُبَشِّرًا فَكَانَتْ مُقَابَلَتُهُمْ لِأُولَئِكَ كُلِّهِمْ بِالْإِعْرَاضِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَسُوءِ الصَّنِيعِ . وَتِلْكَ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ أَهْوَاءَهُمْ وَإِلَّا فَكَيْفَ لَمْ يَجِدُوا فِي خِلَالِ هَاتِهِ الْعُصُورِ وَمِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَشَارِبِ مَا يُوَافِقُ الْحَقَّ وَيَتَمَحَّضُ لِلنُّصْحِ .
وَإِنَّ قَوْمًا هَذَا دَأْبُهُمْ يَرِثُهُ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ لَجَدِيرُونَ
[ ص: 593 ] بِزِيَادَةِ التَّوْبِيخِ لِيَكُونَ هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُكَابَرَةٌ وَحَسَدٌ حَتَّى تَنْقَطِعَ حُجَّتُهُمْ إِذْ لَوْ كَانَتْ مُعَانَدَتُهُمْ لِلْإِسْلَامِ هِيَ أُولَى فِعْلَاتِهِمْ لَأَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّهُمْ مَا أَعْرَضُوا إِلَّا لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بُطْلَانٍ ؛ فَكَانَ هَذَا مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا وَمُقَدِّمَةً لِلْإِنْحَاءِ عَلَيْهِمْ فِي مُقَابَلَتِهِمْ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْآتِي ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=88وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ تَمْهِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ الَّذِي هُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ التَّعَجُّبُ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمْهِيدُ التَّمْهِيدِ وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَلَا مُقْتَضَى لِلْإِعْلَامِ بِهِ اسْتِقْلَالًا هُنَا وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ لِيُبْنَى عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَيْ وَلَقَدْ كَانَ مَا كَانَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَهُوَ إِيتَاءُ
مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا أَيْضًا بَعْدَهُ بِالرُّسُلِ فَهُوَ كَالْعِلَاوَةِ أَوْ كَقَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا وَقَدْ كَانَ كَذَا .
وَقَفَّى مُضَاعَفُ قَفَا تَقُولُ قَفَوْتُ فُلَانًا إِذَا جِئْتُ فِي إِثْرِهِ لِأَنَّكَ حِينَئِذٍ كَأَنَّكَ تَقْصِدُ جِهَةَ قَفَاهُ فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْجَوَامِدِ مِثْلَ جَبَهَهُ . فَصَارَ الْمُضَاعَفُ قَفَّاهُ بِفُلَانٍ تَقْفِيَةً وَذَلِكَ أَنَّكَ جَعَلْتَهُ مَأْمُورًا بِأَنْ يَقْفُوَ بِجَعْلٍ مِنْكَ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَيْ جَعَلْتَهُ يَقْفُوهُ غَيْرُهُ وَلِكَوْنِ الْمَفْعُولِ وَاحِدًا جَعَلُوا الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عِنْدَ التَّضْعِيفِ مُتَعَلِّقًا بِالْفِعْلِ بِبَاءِ التَّعْدِيَةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ التَّابِعُ بِالْمَتْبُوعِ فَقَالُوا قَفَّى زَيْدًا بِعَمْرٍو عِوَضَ أَنْ يَقُولُوا قَفَّى زَيْدًا عَمْرًا .
فَمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87قَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أَرْسَلْنَا رُسُلًا وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُ قَفَّيْنَا لِلْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ ضَمِيرُ
مُوسَى . وَقَوْلُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِهِ أَيْ مَوْتِهِ ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّسْجِيلِ عَلَى
الْيَهُودِ بِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بَعْدَ
مُوسَى لَيْسَ بِبِدْعٍ .
وَالْجَمْعُ فِي الرُّسُلِ لِلْعَدَدِ وَالتَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ تَكْثِيرٌ قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَيْ لِأَنَّ شَأْنَ لَفْظِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ هُنَا مُتَعَذِّرًا دَلَّ عَلَى التَّكْثِيرِ مَجَازًا لِمُشَابِهَةِ الْكَثِيرِ بِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ كَقَوْلِكَ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ فِي الْبَلَدِ لَمْ يَشْهَدِ الْهِلَالَ إِذَا شَهِدَهُ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ .
وَسُمِّيَ أَنْبِيَاءُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ
مُوسَى رُسُلًا مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ اعْتِبَارًا
[ ص: 594 ] بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَتَفْسِيرِهَا وَالتَّفْرِيعِ مِنْهَا فَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا وَبِذَلِكَ كَانُوا زَائِدِينَ عَلَى مُطْلَقِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ لَا تَأْصِيلًا وَلَا تَفْرِيعًا . وَقَالَ
الْبَاقِلَّانِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ
الْفَخْرُ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ جَاءُوا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ وَلَوْ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرْعِ الْأَوَّلِ أَوْ تَجْدِيدِ مَا انْدَرَسَ مِنْهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=123وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=139وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَمَا كَانَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مِثْلَهُمْ فِي أَنَّهُ مَا أَتَى بِأَحْكَامٍ جَدِيدَةٍ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا وَخَصَّ
عِيسَى بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ
مُوسَى زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ عَلَى
الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ وَلِذَلِكَ أَيْضًا خَصَّهُ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وَلِأَنَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَ
مُوسَى مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يُخْبِرُوا أَنَّ
جِبْرِيلَ جَاءَهُمْ بِوَحْيٍ
وَعِيسَى كَانَ أَوْسَعَ مِنْهُمْ فِي الرِّسَالَةِ .
وَعِيسَى اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنْ
يَشُوعَ أَوْ
يَسُوعَ وَهُوَ اسْمُ
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَلَبُوهُ فِي تَعْرِيبِهِ قَلْبًا مَكَانِيًّا لِيَجْرِيَ عَلَى وَزْنٍ خَفِيفٍ كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ ثِقَلِ الْعُجْمَةِ وَثِقَلِ تَرْتِيبِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ حَرْفَيْ عِلَّةٍ فِي الْكَلِمَةِ وَشِينًا وَالْخَتْمَ بِحَرْفِ حَلْقٍ لَا يُجْرِي هَذَا التَّنْظِيمَ عَلَى طَبِيعَةِ تَرْتِيبِ الْحُرُوفِ مَعَ التَّنَفُّسِ عِنْدَ النُّطْقِ بِهَا فَقَدَّمُوا الْعَيْنَ لِأَنَّهَا حَلْقِيَّةٌ فَهِيَ مَبْدَأُ النُّطْقِ ثُمَّ حَرَّكُوا حُرُوفَهُ بِحَرَكَاتٍ مُتَنَاسِبَةٍ وَجَعَلُوا شِينَهُ الْمُعْجَمَةَ الثَّقِيلَةَ سِينَا مُهْمَلَةً فَلِلَّهِ فَصَاحَةُ الْعَرَبِيَّةِ . وَمَعْنَى يَشُوعُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ السَّيِّدُ أَوِ الْمُبَارَكُ ،
وَمَرْيَمُ هِيَ أُمُّ
عِيسَى وَهَذَا اسْمُهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ نُقِلَ لِلْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَالِهِ لِخِفَّتِهِ وَلَا مَعْنَى
لِمَرْيَمَ فِي الْعَرَبِيَّةِ غَيْرَ الْعَلَمِيَّةِ ؛ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ الْمُتَنَصِّرَةَ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الصِّفَةِ فِي مَعْنَى الْمَرْأَةِ الْمُتَبَاعِدَةِ عَنْ مُشَاهَدَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ هَاتِهِ الصِّفَةَ اشْتُهِرَتْ بِهَا
مَرْيَمُ إِذْ هِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ عِبْرَانِيَّةٍ خَدَمَتْ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ امْرَأَةٌ
مَرْيَمٌ أَيْ مُعْرِضَةٌ عَنْ صِفَاتِ النِّسَاءِ ، كَمَا يَقُولُونَ رَجُلٌ حَاتِمٌ بِمَعْنَى جَوَادٌ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ فِي الْأَعْلَامِ الْمُشْتَهِرَةِ بِالْأَوْصَافِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ
رُؤْبَةُ : "
قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَزِرْهُ مَرْيَمَهْ
"
فَلَيْسَ هُوَ مُشْتَقًّا مَنْ رَامَ يَرِيمُ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَزْنُهَا فَعْيِلَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا .
[ ص: 595 ] وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ ابْنُ مَرْيَمَ كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي بَطْنِهَا بِدُونِ مَسِّ رَجُلٍ . وَأُمُّهُ
مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا .
وُلِدَ
عِيسَى فِي مُدَّةِ سَلْطَنَةِ
أَغُسْطُسَ مَلِكِ
رُومِيَّةَ وَفِي مُدَّةِ حُكْمِ
هِيرُدُوسَ عَلَى
الْقُدْسِ مِنْ جِهَةِ سُلْطَانِ الرُّومَانِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ 430 عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ
بِبَيْتِ لَحْمٍ الْيَهُودِيَّةِ ، وَلَمَّا بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً بُعِثَ رَسُولًا إِلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَقِيَ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ بَلَغَ سِنُّهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً . وَأَمَّا
مَرْيَمُ أُمُّهُ فَهِيَ
مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا وَلَدَتْ
عِيسَى وَهِيَ ابْنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَتَكُونُ وِلَادَتُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبْلَ مِيلَادِ
عِيسَى وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ أَنْ شَاخَتْ وَلَا تُعْرَفُ سَنَةُ وَفَاتِهَا ، وَكَانَ أَبُوهَا مَاتَ قَبْلَ وِلَادَتِهَا فَكَفَلَهَا
زَكَرِيَّاءُ مِنْ
بَنِي أَبْيَا وَهُوَ زَوْجُ
الْيَصَابَاتِ خَالَةِ
مَرْيَمَ وَكَانَ كَاهِنًا مِنْ أَحْبَارِ
الْيَهُودِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ .
وَالْبَيِّنَاتُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيِ الْآيَاتُ وَالْمُعْجِزَاتُ الْوَاضِحَاتُ ، وَأَيَّدْنَاهُ قَوَّيْنَاهُ وَشَدَدْنَا عَضُدَهُ وَنَصَرْنَاهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْيَدُ فَأَيَّدَ بِمَعْنَى جَعَلَهُ ذَا يَدٍ وَالْيَدُ مَجَازٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَوَزْنُ أَيَّدَ أَفْعَلَ ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ فَوَزْنُهُ فَعَّلَ .
وَالتَّأْيِيدُ التَّقْوِيَةُ وَالْإِقْدَارُ عَلَى الْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=17وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ وَالْأَيْدُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَدِ لِأَنَّهَا آلَةُ الْقُدْرَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْيَدِ أَيْ جَعَلَهُ ذَا يَدٍ أَيْ قُوَّةٍ ، وَالْمُرَادُ هُنَا قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ قُوَّةُ الرِّسَالَةِ وَقُوَّةُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَسَيَأْتِي فِي الْأَنْفَالِ قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنْصِرِهِ . وَالرُّوحُ جَوْهَرٌ نُورَانِيٌّ لَطِيفٌ أَيْ غَيْرُ مُدْرَكٍ بِالْحَوَاسِّ فَيُطْلَقُ عَلَى النَّفْسِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسِ ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ حَيَاةُ الْعَجْمَاوَاتِ إِلَّا لَفْظُ نَفْسٍ ، قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=85وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَيُطْلَقُ عَلَى قُوَّةٍ مِنْ لَدُنِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ بِهَا عَمَلٌ عَجِيبٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=91فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَيُطْلَقُ عَلَى
جِبْرِيلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=4تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=38يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْقُدُسُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى النَّزَاهَةِ وَالطَّهَارَةِ . وَالْمُقَدَّسُ الْمُطَهَّرُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [ ص: 596 ] وَرُوحُ الْقُدُسِ رُوحٌ مُضَافٌ إِلَى النَّزَاهَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرُّوحُ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِي بَطْنِ
مَرْيَمَ فَتَكُونُ مِنْهُ
عِيسَى وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَأْيِيدًا لَهُ لِأَنَّ تَكْوِينَهُ فِي ذَلِكَ الرُّوحِ اللَّدُنِّيِّ الْمُطَهَّرِ هُوَ الَّذِي هَيَّأَهُ لِأَنْ يَأْتِيَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ
جِبْرِيلَ وَالتَّأْيِيدُ بِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْوَحْيِ وَيَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ فِي الْمَهْدِ وَحِينَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ أَظْهَرُ هُنَا ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341138أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثٌ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَجَلَهَا .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِضَافَةُ رُوحٍ إِلَى الْقُدُسِ إِمَّا مِنْ إِضَافَةِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا إِلَى مَا حَقُّهُ أَنْ تُشْتَقَّ مِنْهُ الصِّفَةُ وَلَكِنِ اعْتَبَرَ طَرِيقَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ أَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْجِنْسِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِاقْتِضَاءِ الْإِضَافَةِ مُلَابَسَةَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَتِلْكَ الْمُلَابَسَةُ هُنَا تَئُولُ إِلَى التَّوْصِيفِ وَإِلَى هَذَا قَالَ
التَّفْتَزَانِيُّ فِي شَرْحِ الْكَشَّافِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ صِفَةً حَقِيقَةً حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ ، وَمَا قَبْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنَا تَمْهِيدٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ طُغْيَانِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ جَمِيعَ الرُّسُلِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِمُقَابَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَاوَى فِيهَا الْخَلَفُ السَّلَفَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سَجِيَّةٌ فِي الْجَمِيعِ .
وَتَقْدِيمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُفِيدِ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَظَاهِرُهُ غَرِيبٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُتَسَلِّطًا عَلَى الْعَاطِفِ وَالْمَعْطُوفِ ، وَتَسَلُّطُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ غَرِيبٌ فَلِذَلِكَ صَرَفَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ طَرِيقَتَانِ : إِحْدَاهُمَا طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ قَالُوا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ وَقَدْ كَانَ مَوْقِعُهَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِفْهَامِ التَّصْدِيرَ فِي جُمْلَتِهِ ، وَإِنَّمَا خَصُّوا التَّقْدِيمَ بِالْهَمْزَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ كَلِمَاتِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذْ هِيَ الْحَرْفُ الْمَوْضُوعُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَكْثَرِ اسْتِعْمَالًا فِيهِ ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَكَلِمَاتٌ أُشْرِبَتْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مِنْهَا مَا هُوَ اسْمٌ مِثْلَ ( أَيْنَ ) ، وَمِنْهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ ( هَلْ ) فَإِنَّهُ بِمَعْنَى قَدْ فَلَمَّا كَثُرَ دُخُولُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ حَذَفُوا الْهَمْزَةَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَأَصْلُ " هَلْ فَعَلْتَ " " أَهَلْ فَعَلْتَ " فَالتَّقْدِيرُ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَقُلِبَ ، وَقِيلَ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ
[ ص: 597 ] مَعْطُوفًا وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَحْذُوفٍ بِحَسَبِ مَا يَسْمَحُ بِهِ الْمَقَامُ .
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ وَفِي مُغْنِي اللَّبِيبِ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيَّ أَوَّلُ الْقَائِلِينَ بِهَا وَادَّعَى
الدَّمَامِينِيُّ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيَّ مَسْبُوقٌ فِي هَذَا وَلَمْ يُعَيِّنْ مَنْ سَبَقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ جَوَّزَ طَرِيقَةَ الْجُمْهُورِ وَجَوَّزَ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ هِيَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ وَأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَالتَّقْدِيرُ فِي مِثْلِهِ أَتُكَذِّبُونَهُمْ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ إِلَخْ .
وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِفْهَامِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً مَحْذُوفًا بَقِيَّتُهَا ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهَا مَا عُطِفَ . وَلَا أَثَرَ لِهَذَا إِلَّا فِي اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ وَالتَّقْدِيرُ فَأَمَّا مَعْنَى الْكَلَامِ فَلَا يَتَغَيَّرُ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ لِأَنَّ الْعَطْفَ وَالِاسْتِفْهَامَ كِلَيْهِمَا مُتَوَجِّهَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهُمَا . وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=165أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا أَنَّ الطَّرِيقَتَيْنِ جَائِزَتَانِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ الْحَقُّ وَأَمَّا عَدَمُ تَعَرُّضِهِ لِذَلِكَ عِنْدَ آيَاتِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=75أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=76أَفَلَا تَعْقِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ فِيمَا مَضَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَذَلِكَ ذُهُولٌ مِنْهُ وَقَدْ تَدَارَكَهُ هُنَا . وَعِنْدِي جَوَازُ طَرِيقَةٍ ثَالِثَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْعَطْفِ وَالْمَعْنَى أَتَزِيدُونَ عَلَى مُخَالَفَاتِكُمُ اسْتِكْبَارَكُمْ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ إِلَخْ وَهَذَا مُتَأَتٍّ فِي حُرُوفِ التَّشْرِيكِ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=51أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ ، وَقَوْلِ
النَّابِغَةِ :
أَثَمَّ تَعَذَّرَانِ إِلَيَّ مِنْهَا فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ وَقَدْ رَأَيْتُ
وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فَوَجَدْتُ مَوَاقِعَهُ خَاصَّةً بِالِاسْتِفْهَامِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا رَأَيْتُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ .
وَمَعْنَى الْفَاءِ هُنَا تَسَبُّبُ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ تَقْفِيَةِ
مُوسَى بِالرُّسُلِ أَيْ قَفَّيْنَا
مُوسَى بِالرُّسُلِ فَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِكُمْ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ جَاءَكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ كَوْنَ الْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ فَفَعَلْتُمْ ثُمَّ وَبَّخَهُمْ بِقَوْلِهِ أَفَكُلَّمَا ، فَالْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالْفَاءُ حِينَئِذٍ عَاطِفَةٌ مُقَدَّرًا مَعْطُوفًا عَلَى الْمُقَدَّرِ الْمُؤَهَّلِ لِلتَّوْبِيخِ ، وَهُوَ وَجْهٌ بَعِيدٌ ، وَمَرْمَى الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ . غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا الْإِخْبَارُ بِمَدْلُولِهَا . وَانْتَصَبَ كُلَّمَا بِالنِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى مَا الظَّرْفِيَّةِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَالْعَامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ اسْتَكْبَرْتُمْ وَقُدِّمَ الظَّرْفُ لِيَكُونَ مُوَالِيًا لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُرَادِ مِنْهُ التَّعْجِيبُ لِيَظْهَرَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَجَبِ هُوَ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ مِنْهُمُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ عَرَضَ فِي
[ ص: 598 ] بَعْضِ الرُّسُلِ وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ ، وَالتَّقْدِيرُ أَفَاسْتَكْبَرْتُمْ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ فَقَدَّمَ الظَّرْفَ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَجَبِ ، وَقَدْ دَلَّ الْعُمُومُ الَّذِي فِي كُلَّمَا عَلَى شُمُولِ التَّكْذِيبِ أَوِ الْقَتْلِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَزْمَانِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَفْرَادِ الْمَظْرُوفَةِ فِيهَا .
وَتَهْوَى مُضَارِعُ هَوِيَ بِكَسْرِ الْوَاوِ إِذَا أَحَبَّ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الِانْخِلَاعِ عَنِ الْقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالِانْغِمَاسِ فِي أَنْوَاعِ الْمَلَذَّاتِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ .
وَالِاسْتِكْبَارُ الِاتِّصَافُ بِالْكِبْرِ وَهُوَ هُنَا التَّرَفُّعُ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَإِعْجَابُ الْمُتَكَبِّرِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِقَادُ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُطِيعُوا الرُّسُلَ وَيَكُونُوا أَتْبَاعًا لَهُمْ ؛ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتَكْبَرْتُمْ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=87فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ مُسَبَّبٌ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ فَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَكْبَرُوا بَلَغَ بِهِمُ الْعِصْيَانُ إِلَى حَدِّ أَنْ كَذَّبُوا فَرِيقًا أَيْ صَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِمْ أَوْ عَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْكَاذِبِ وَقَتَلُوا فَرِيقًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ مَدْيَنَ
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَنَاسَبَ أَنْ يُقَدَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=30فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ فِي لَفْظِ فَرِيقٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ نَحْوَ طَائِفَةٍ إِذَا وَقَعَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ فِي مَقَامِ التَّقْسِيمِ نَحْوَ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَالتَّفْصِيلُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ ( رَسُولٌ ) مِنَ الْإِجْمَالِ لِأَنَّ كُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ أَفَادَ عُمُومَ الرَّسُولِ وَشَمِلَ هَذَا
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبُوهُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُمْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةَ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ إِذْ شَكُّوا غَيْرَ مَرَّةٍ فِيمَا يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِهِ مِرَارًا فِي أَوَامِرِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَحَمَلُوهُ عَلَى قَصْدِ التَّغْرِيرِ بِهِمْ وَالسَّعْيِ لِإِهْلَاكِهِمْ كَمَا قَالُوا حِينَ بَلَغُوا الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ . وَحِينَ أَمَرَهُمْ بِالْحُضُورِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحِينَ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ
أَرِيحَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا بَقِيَّةُ الرُّسُلِ فَكَذَّبُوهُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ مِثْلَ
عِيسَى وَقَتَلُوا بَعْضَ الرُّسُلِ مِثْلَ
أَشْعِيَاءَ وَزَكَرِيَّاءَ وَيَحْيَى ابْنِهِ .
وَأَرْمِيَاءَ . وَجَاءَ فِي تَقْتُلُونَ بِالْمُضَارِعِ عِوَضًا عَنِ الْمَاضِي لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ وَهِيَ حَالَةُ قَتْلِهِمْ رُسُلَهُمْ كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=9وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ مَعَ مَا فِي صِيغَةِ تَقْتُلُونَ مِنْ مُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ فَاكْتَمَلَ بِذَلِكَ بَلَاغَةُ الْمَعْنَى وَحُسْنُ النَّظْمِ .