[ ص: 210 ] المسألة الثانية عشرة
من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف ، وهو ضربان :
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=21689ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة ، وقد تقدم التنبيه عليه .
والثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=21689ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك ، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة; فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر ، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد ، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل; فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ، وهكذا يتفق في شرح السنة ، وكذلك في فتاوى الأئمة ، وكلامهم في مسائل العلم ، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه; فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح .
فإذا ثبت هذا; فلنقل الخلاف هنا أسباب :
[ ص: 211 ] أحدها : أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا; فينصهما المفسرون على نصهما ، فيظن أنه خلاف ، كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق ، وقيل : زنجبيل ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : شراب مزجوه بالماء; فهذا كله يشمله اللفظ; لأن الله من به عليهم ، ولذلك جاء في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337932الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل فيكون المن جملة نعم ، ذكر الناس منها آحادا .
والثاني : أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد; فيكون التفسير فيها على قول واحد ، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق ، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني ، وقيل : طير أحمر صفته كذا ، وقيل : طير
بالهند أكبر من العصفور ، وكذلك قالوا في المن : شيء يسقط على الشجر فيؤكل ، وقيل : صمغة حلوة ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : مثل رب غليظ ، وقيل : عسل جامد; فمثل هذا يصح حمله على الموافقة ، وهو الظاهر فيها .
[ ص: 212 ] والثالث :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة ، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي ، وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى ، وهما معا يرجعان إلى حكم واحد ; لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع ، والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال ، كما قالوا في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=73ومتاعا للمقوين [ الواقعة : 73 ] أي : المسافرين ، وقيل : النازلين بالأرض القواء وهي القفر ، وكذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=31تصيبهم بما صنعوا قارعة [ الرعد : 31 ] أي : داهية تفجؤهم ، وقيل : سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشباه ذلك .
[ ص: 213 ] والرابع :
nindex.php?page=treesubj&link=21689ألا يتوارد الخلاف على محل واحد ; كاختلافهم في أن المفهوم له عموم أو لا ، وذلك أنهم قالوا : لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به ، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به ، وهو مما لا يختلفون فيه أيضا ، وكثير من المسائل على هذا السبيل ، فلا يكون في المسألة خلاف ، وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف .
والخامس :
nindex.php?page=treesubj&link=21689يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم; كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد ، بناء على تغير الاجتهاد ، والرجوع عما أفتى به إلى خلافه;
[ ص: 214 ] فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة; لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ، ونسخ له بالثاني ، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع ، والحق فيه ما ذكر أولا ، ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد ، ولا يصح فيها غير ذلك ، وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر ، كما ذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في المتعة ، وربا الفضل ، وكرجوع
الأنصار إلى
المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين ، فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف .
والسادس :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم ; كاختلاف القراء في وجوه القراءات ، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره ، بل على
[ ص: 215 ] إجازته ، والإقرار بصحته ، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات ، وليس في الحقيقة باختلاف; فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها .
والسابع :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات ، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافا في الترجيح ، بل على توسيع المعاني خاصة; فهذا ليس بمستقر خلافا; إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه دون غيره ، وليس الكلام في مثل هذا .
والثامن :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد; فيحمله قوم على المجاز مثلا ، وقوم على الحقيقة ، والمطلوب أمر واحد ; كما يقع لأرباب التفسير كثيرا في نحو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ يونس : 31 ] فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما ، ومنهم من يحملهما على المجاز ، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ، ونظير هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة :
وظاهر لها من يابس الشخت
وبائس الشخث وقد مر بيانه ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة فيه : إن " بائس " و " يابس " واحد ، ومثل ذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=20فأصبحت كالصريم [ القلم : 20 ] 4
[ ص: 216 ] فقيل : كالنهار بيضاء لا شيء فيها ، وقيل : كالليل سوداء لا شيء فيها ، فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان .
والتاسع :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل ، وجميع التأويلات في ذلك سواء ، فلا خلاف في المعنى المراد ، وكثيرا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه ، وتقع في غيرها كثيرا أيضا ، كتأويلاتهم في حديث خيار المجلس بناء على رأي
مالك فيه ، وأشباه ذلك .
[ ص: 217 ] والعاشر :
nindex.php?page=treesubj&link=21689الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد ، كما اختلفوا في الخبر ، هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة ، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب ؟ فهذا خلاف في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14960القاضي عبد الوهاب في مسألة
nindex.php?page=treesubj&link=1232الوتر ، أواجب هو ؟ إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به ، فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة ، وإن لم يريدوا ذلك وقالوا : لا يحرم تركه ، ولا يجرح فاعله ، فوصفه
[ ص: 218 ] بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه ، وما قاله حق ، فإن العبارات لا مشاحة فيها ، ولا ينبني على الخلاف فيها حكم ، فلا اعتبار بالخلاف فيها .
هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف ، يجب أن تكون على بال من المجتهد ، ليقيس عليها ما سواها ، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع .
[ ص: 210 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ
مِنَ الْخِلَافِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْخِلَافِ ، وَهُوَ ضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=21689مَا كَانَ مِنَ الْأَقْوَالِ خَطَأً مُخَالِفًا لِمَقْطُوعٍ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=21689مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْخِلَافَ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ; فَتَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ يَنْقُلُونَ عَنِ السَّلَفِ فِي مَعَانِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً فِي الظَّاهِرِ ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَهَا وَجَدْتَهَا تَتَلَاقَى عَلَى الْعِبَارَةِ كَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ ، وَالْأَقْوَالِ إِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهَا وَالْقَوْلُ بِجَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِمَقْصِدِ الْقَائِلِ; فَلَا يَصِحُّ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهَا عَنْهُ ، وَهَكَذَا يُتَّفَقُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوَى الْأَئِمَّةِ ، وَكَلَامِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَجِبُ تَحْقِيقُهُ; فَإِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا خِلَافَ فِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ خَطَأٌ ، كَمَا أَنَّ نَقْلَ الْوِفَاقِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ لَا يَصِحُّ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَلِنَقْلِ الْخِلَافِ هُنَا أَسْبَابٌ :
[ ص: 211 ] أَحَدُهَا : أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، وَيَكُونَ ذَلِكَ الْمَنْقُولُ بَعْضَ مَا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ ، ثُمَّ يَذْكُرَ غَيْرَ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ أَيْضًا; فَيَنُصُّهُمَا الْمُفَسِّرُونَ عَلَى نَصِّهِمَا ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ خِلَافٌ ، كَمَا نَقَلُوا فِي الْمَنِّ أَنَّهُ خُبْزُ رُقَاقٍ ، وَقِيلَ : زَنْجَبِيلٌ ، وَقِيلَ : التَّرَنْجَبِينُ ، وَقِيلَ : شَرَابٌ مَزَجُوهُ بِالْمَاءِ; فَهَذَا كُلُّهُ يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ; لِأَنَّ اللَّهَ مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337932الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ الْمَنُّ جُمْلَةَ نِعَمٍ ، ذَكَرَ النَّاسُ مِنْهَا آحَادًا .
وَالثَّانِي : أَنْ يُذْكَرَ فِي النَّقْلِ أَشْيَاءُ تَتَّفِقُ فِي الْمَعْنَى بِحَيْثُ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ; فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ فِيهَا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَيُوهِمُ نَقْلُهَا عَلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ أَنَّهُ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ ، كَمَا قَالُوا فِي السَّلْوَى إِنَّهُ طَيْرٌ يُشْبِهُ السِّمَانِيَّ ، وَقِيلَ : طَيْرٌ أَحْمَرُ صِفَتُهُ كَذَا ، وَقِيلَ : طَيْرٌ
بِالْهِنْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَنِّ : شَيْءٌ يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ فَيُؤْكَلُ ، وَقِيلَ : صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ ، وَقِيلَ : التَّرَنْجَبِينُ ، وَقِيلَ : مِثْلُ رُبٍّ غَلِيظٍ ، وَقِيلَ : عَسَلٌ جَامِدٌ; فَمِثْلُ هَذَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِيهَا .
[ ص: 212 ] وَالثَّالِثُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أَنْ يُذْكَرَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عَلَى تَفْسِيرِ اللُّغَةِ ، وَيُذْكَرَ الْآخَرُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَعْنَوِيِّ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَقْرِيرِ الْإِعْرَابِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى ، وَهُمَا مَعًا يَرْجِعَانِ إِلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ النَّظَرَ اللُّغَوِيَّ رَاجِعٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَصْلِ الْوَضْعِ ، وَالْآخَرَ رَاجِعٌ إِلَى تَقْرِيرِ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=73وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [ الْوَاقِعَةِ : 73 ] أَيِ : الْمُسَافِرِينَ ، وَقِيلَ : النَّازِلِينَ بِالْأَرْضِ الْقِوَاءِ وَهِيَ الْقَفْرُ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=31تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [ الرَّعْدِ : 31 ] أَيْ : دَاهِيَةٌ تَفْجَؤُهُمْ ، وَقِيلَ : سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .
[ ص: 213 ] وَالرَّابِعُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أَلَّا يَتَوَارَدَ الْخِلَافُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ ; كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُ عُمُومٌ أَوْ لَا ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا يَخْتَلِفُ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ أَنَّهُ عَامٌّ فِيمَا سِوَى الْمَنْطُوقِ بِهِ ، وَالَّذِينَ نَفَوُا الْعُمُومَ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَيْضًا ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ ، فَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ ، وَيُنْقَلُ فِيهَا الْأَقْوَالُ عَلَى أَنَّهَا خِلَافٌ .
وَالْخَامِسُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689يَخْتَصُّ بِالْآحَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ; كَاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَامِ الْوَاحِدِ ، بِنَاءً عَلَى تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ ، وَالرُّجُوعِ عَمَّا أَفْتَى بِهِ إِلَى خِلَافِهِ;
[ ص: 214 ] فَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ خِلَافًا فِي الْمَسْأَلَةِ; لِأَنَّ رُجُوعَ الْإِمَامِ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي اطِّرَاحٌ مِنْهُ لِلْأَوَّلِ ، وَنَسْخٌ لَهُ بِالثَّانِي ، وَفِي هَذَا مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَنَازُعٌ ، وَالْحَقُّ فِيهِ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى أَعَمِّ مِمَّا ذُكِرَ كَأَنْ يَخْتِلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ، وَرِبَا الْفَضْلِ ، وَكَرُجُوعِ
الْأَنْصَارِ إِلَى
الْمُهَاجِرِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى مِثْلُ هَذَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَالسَّادِسُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ لَا فِي الْحُكْمِ ; كَاخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا بِمَا قَرَءُوا بِهِ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ ، بَلْ عَلَى
[ ص: 215 ] إِجَازَتِهِ ، وَالْإِقْرَارِ بِصِحَّتِهِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الِاخْتِيَارَاتِ ، وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاخْتِلَافٍ; فَإِنَّ الْمَرْوِيَّاتِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْهَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا .
وَالسَّابِعُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أَنْ يَقَعَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِ الْوَاحِدِ عَلَى أَوْجَهٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ ، وَيَبْنِي عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ خِلَافًا فِي التَّرْجِيحِ ، بَلْ عَلَى تَوْسِيعِ الْمَعَانِي خَاصَّةً; فَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ خِلَافًا; إِذِ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْتِزَامِ كُلِّ قَائِلٍ احْتِمَالًا يُعَضِّدُهُ بِدَلِيلٍ يُرَجِّحُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ حَتَّى يَبْنِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا .
وَالثَّامِنُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَنْزِيلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ; فَيَحْمِلُهُ قَوْمٌ عَلَى الْمَجَازِ مَثَلًا ، وَقَوْمٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَالْمَطْلُوبُ أَمْرٌ وَاحِدٌ ; كَمَا يَقَعُ لِأَرْبَابِ التَّفْسِيرِ كَثِيرًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [ يُونُسَ : 31 ] فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ عَلَى حَقَائِقِهِمَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُمَا عَلَى الْمَجَازِ ، وَلَا فَرْقَ فِي تَحْصِيلِ الْمَعْنَى بَيْنَهُمَا ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذِي الرُّمَّةِ :
وَظَاهِرٌ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ
وَبَائِسِ الشَّخْثِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ ، وَقَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذِي الرُّمَّةِ فِيهِ : إِنَّ " بَائِسَ " وَ " يَابِسَ " وَاحِدٌ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=20فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [ الْقَلَمِ : 20 ] 4
[ ص: 216 ] فَقِيلَ : كَالنَّهَارِ بَيْضَاءَ لَا شَيْءَ فِيهَا ، وَقِيلَ : كَاللَّيْلِ سَوْدَاءَ لَا شَيْءَ فِيهَا ، فَالْمَقْصُودُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ شُبِّهَ بِالْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَتَلَاقَيَانِ .
وَالتَّاسِعُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ الظَّاهِرِ عَنْ مُقْتَضَاهُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ ، فَإِنَّ مَقْصُودَ كُلِّ مُتَأَوِّلٍ الصَّرْفُ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَى وَجْهٍ يَتَلَاقَى مَعَ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْوِيلِ ، وَجَمِيعُ التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي الظَّوَاهِرِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ ، وَتَقَعُ فِي غَيْرِهَا كَثِيرًا أَيْضًا ، كَتَأْوِيلَاتِهِمْ فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِنَاءً عَلَى رَأْيِ
مَالِكٍ فِيهِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
[ ص: 217 ] وَالْعَاشِرُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21689الْخِلَافُ فِي مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ مُتَّحِدٌّ ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ ، هَلْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ خَاصَّةً ، أَمْ ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ ؟ فَهَذَا خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ ، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِيهِمَا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى مُرَادِهِمْ فِيهِمَا .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14960الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي مَسْأَلَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=1232الْوِتْرِ ، أَوَاجِبٌ هُوَ ؟ إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ تَرْكَهُ حَرَامٌ يُجَرَّحُ فَاعِلُهُ بِهِ ، فَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مَعْنًى يَصِحُّ أَنْ تَتَنَاوَلَهُ الْأَدِلَّةُ ، وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : لَا يَحْرُمُ تَرْكُهُ ، وَلَا يُجَرَّحُ فَاعِلُهُ ، فَوَصْفُهُ
[ ص: 218 ] بِأَنَّهُ وَاجِبٌ خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ ، وَمَا قَالَهُ حَقٌّ ، فَإِنَّ الْعِبَارَاتِ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِيهَا حُكْمٌ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْخِلَافِ فِيهَا .
هَذِهِ عَشَرَةُ أَسْبَابٍ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْخِلَافِ ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِ ، لِيَقِيسَ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا ، فَلَا يَتَسَاهَلُ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ .