[ ص: 302 ] المسألة الخامسة
nindex.php?page=treesubj&link=22301_22312الاقتداء بالأفعال الصادرة من أهل الاقتداء يقع على وجهين :
أحدهما : أن يكون المقتدى به في الأفعال ممن دل الدليل على عصمته ، كالاقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعل أهل الإجماع ، أو ما يعلم بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطئون على الخطأ ، كعمل أهل
المدينة على رأي
مالك .
والثاني : ما كان بخلاف ذلك .
فأما الثاني فعلى ضربين :
أحدهما : أن ينتصب بفعله ذلك لأن يقتدى به قصدا ، كأوامر الحكام ونواهيهم وأعمالهم في مقطع الحكم ، من أخذ وإعطاء ، ورد وإمضاء ، ونحو ذلك ، أو يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدا به ، واهتماما بشأنه دينا وأمانة .
والآخر : ألا يتعين فيه شيء من ذلك .
فهذه أقسام ثلاثة ، لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى الاقتداء .
فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه المقتدى به ، لا يقصد به إلا ذلك ، سواء عليه أفهم مغزاه أم لا
[ ص: 303 ] من غير زيادة ، أو يزيد عليه تنوية المقتدى به في الفعل أحسن المحامل مع احتماله في نفسه ، فيبني في اقتدائه على المحمل الأحسن ، ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ، ويفرع عليه المسائل .
فأما الأول ، فلا إشكال في صحة الاقتداء به على حسب ما قرره الأصوليون ، كما اقتدى الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياء كثيرة ، كنزع الخاتم الذهبي ، وخلع النعلين في الصلاة ، والإفطار في السفر ، والإحلال من
[ ص: 304 ] العمرة عام
الحديبية ، وكذلك أفعال الصحابة التي أجمعوا عليها ، وما أشبه ذلك .
وأما الثاني ، فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن انضباط المقصد ، ولكن الصواب أنه غير معتد به شرعا في الاقتداء ، لأمور :
أحدها : أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال قصد المقتدى به دون ما نواه المقتدي من غير دليل .
فالاحتمال الذي عينه المقتدي لا يتعين ، وإذا لم يتعين لم يكن ترجيحه إلا بالتشهي ، وذلك مهمل في الأمور الشرعية ؛ إذ لا ترجيح إلا بمرجح .
[ ص: 305 ] ولا يقال : إن تحسين الظن مطلوب على العموم ، فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من ثبتت عصمته ؛ لأنا نقول : تحسين الظن بالمسلم - وإن ظهرت مخايل احتمال إساءة الظن فيه - مطلوب بلا شك ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن الآية [ الحجرات : 12 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=12لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا الآية [ النور : 12 ] .
بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم - كما أمر باعتقاد
[ ص: 306 ] ما لا يعلم - في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=12وقالوا هذا إفك مبين [ النور : 12 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=16ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم [ النور : 16 ] .
إلى غير ذلك مما في هذا المعنى .
ومع ذلك فلم يبن عليه حكم شرعي ، ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك بمجرد هذا التحسين حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب .
فإذا كان
nindex.php?page=treesubj&link=18796المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم ، ولم يكن كل مسلم عدلا عند المحسن بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية ، دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر ، وإذا لم يثبته لم ينبن عليه حكم ، وتحسين الظن بالأفعال من ذلك ، فلا ينبني عليها حكم .
ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلا يحتمل أن يكون دينيا تعبديا ، ويحتمل أن يكون دنيويا راجعا إلى مصالح الدنيا ، ولا قرينة تدل على تعيين أحد الاحتمالين ، فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني لا الدنيوي بناء على تحسينه الظن به .
والثاني : أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلا ، وهو مأمور به مطلقا ، وافق ما في نفس الأمر أو خالف ؛ إذ لو كان يستلزم المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقا ، بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الأمر ، وليس كذلك باتفاق ، فلا يستلزم المطابقة ، وإذا ثبت هذا فالاقتداء بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه ، لا على أمر حصل لذلك المقتدى به ، لكنه قصد الاقتداء بناء على ما
[ ص: 307 ] عند المقتدى به ، فأدى إلى بناء الاقتداء على غير شيء ، وذلك باطل ، بخلاف الاقتداء بناء على ظهور علاماته ، فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدى به علما أو ظنا ، وإياه قصد المقتدي باقتدائه ، فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة .
والثالث : أن هذا الاقتداء يلزم منه التناقض ؛ لأنه إنما يقتدى به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ، ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا ، وإذا لم يقتضه لم يكن الاقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ، وقد فرضنا أنه كذلك ، هذا خلف متناقض .
وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن ، والفرق بينهما ظاهر ، لأمرين :
أحدهما : أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك ، حسبما دلت عليه الأدلة الظنية ، بخلاف تحسين الظن ، فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أو لا .
والثاني : أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه ، وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه ، وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدى به ، فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن
[ ص: 308 ] قواه وثبته بتكراره على فكره ، ووعظ النفس في اعتقاده ، وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ، ونفاه ، وكرر نفيه على فكره ، ومحاه عن ذكره .
فإن قيل : إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد ، والانقطاع إلى الله ، ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله ، فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب ، شأن الأحكام الواردة على هذا الوزن .
فالجواب : أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي ، فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ، ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن ، بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره ، والظن الذي يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه ، وفرض مسألتنا ليس هكذا ، بل على جهة ألا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ، ويضعف الاحتمال الآخر ، كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته ، فمثل هذا له في هذه الدار حالان :
[ ص: 309 ] حال دنيوي ، به يقيم معاشه ، ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه .
وحال أخروي ، به يقيم أمر آخرته .
فأما هذا الثاني فلا كلام فيه ، وهو متعين في نفسه ، وغير محتمل إلا في القليل ، ولا اعتبار بالنوادر .
وأما الأول : فهو مثار الاحتمال ، فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ، ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه في نفسه ، فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به ، وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ، ومتعبدا له به ، فيعمل به على قصد التقرب ، ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به ، ليس له أصل ينبني عليه ؛ إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدى به نيل ما أبيح له من حظه ، فلا يصادف قصد المقتدي محلا ، بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيره متقربا به ، والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام .
بل نقول : إذا وقف المقتدى به وقفة ، أو تناول ثوبه على وجه ، أو قبض على لحيته في وقت ما ، أو ما أشبه ذلك ، فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي ، أو غافلا ، كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين ، فمثل هذا هو المراد بالمسألة .
وكذلك إذا كان له درهم مثلا ، فأعطاه صديقا له لصداقته ، وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به ، فيقول المقتدي : حسن الظن به يقتضي أنه كان يتصدق به ، لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر
[ ص: 310 ] الأخروي ، فيجيء منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية .
وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337965واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فاستنبط منه صحة
nindex.php?page=treesubj&link=27927الإيثار في أمور الآخرة ؛ إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا .
فإذا بنينا على ما تقدم ، فلقائل أن يقول : إن ما قاله غير متعين ؛ لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه ؛ لأنه لا حجر عليه ، ولا قدح فيه ينسب إليه ، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يحب من الدنيا أشياء ، وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ، ويتعين ذلك في أمور ، كحبه للنساء ، والطيب ،
[ ص: 311 ] والحلواء ، والعسل ، والدباء ، وكراهيته للضب ، وأشباه ذلك ، وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له ، وهو منقول كثيرا .
ووجه ثان ، وهو أنه قد دعا - عليه الصلاة والسلام - بأمور كثيرة دنيوية ، كاستعاذته من الفقر ، والدين ، وغلبة الرجال ، وشماتة الأعداء ، والهم ، وأن يرد إلى أرذل العمر ، وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ، ويدل
[ ص: 312 ] عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337966لكل نبي دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم ، وهو الدعاء عليهم ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] حسبما نقله المفسرون ، وكان من
[ ص: 313 ] الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة ، فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط ، فكذلك دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة ، فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم .
وأمر ثالث : وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل ، لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله - عليه الصلاة والسلام - كان من أفعال الجبلة الآدمية أو لا ؛ إذ يمكن أن يقال : إنه قصد بها أمورا أخروية ، وتعبدا مخصوصا ، وليس كذلك عند العلماء ، بل كان يلزم منه ألا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا ؛ لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به ، وكذلك إذا لم يبين جهته ؛ لأنه محتمل أيضا ، فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل ، وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة ، فإذا ثبت هذا صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت ، وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه .
مع أن الحديث كما تقدم يقتضي أن الدعوة مخصوصة بالأمة ، لقوله فيه :
[ ص: 314 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=10337966لكل نبي دعوة مستجابة في أمته فليست مخصوصة به ، فلا يحصل فيها معنى الإيثار الذي ذكره ؛ لأن الإيثار ثان عن قبول الانتفاع في جهة المؤثر ، وهنا ليس كذلك .
والقسم الثاني : إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه ، فلا شك في صحة الاقتداء ؛ إذ لا فرق بين تصريحه بالانتصاب للناس ، وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك ، وإن كان مما تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك ، بالقرائن الدالة على ذلك ، فهو موضع احتمال .
فللمانع أن يقول : إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله الخطأ ، والنسيان ، والمعصية قصدا ، وإذا لم يتعين وجه فعله ، فكيف يصح الاقتداء
[ ص: 315 ] به فيه قصدا في العبادات أو في العادات ؟ ولذلك حكي عن بعض السلف أنه قال : أضعف العلم الرؤية ، يعني : أن يقول : رأيت فلانا يعمل كذا ، ولعله فعله ساهيا .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12444إياس بن معاوية : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك .
وقد ذم الله تعالى الذين قالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=22إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية [ الزخرف : 22 ] .
وفي الحديث من قول المرتاب :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337967سمعت الناس يقولون شيئا فقلته .
فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس ، أو هو قريب منه .
وللمجيز أن يقول : إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام ، وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك - ولا سيما في العبادات ، ومع التكرار أيضا ،
[ ص: 316 ] وهو من أهل الاقتداء بقوله - فالاقتداء بفعله كذلك .
وقد قال
مالك في
nindex.php?page=treesubj&link=2539إفراد يوم الجمعة بالصوم : إنه جائز ، واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه ، قال : وأراه كان يتحراه ، فقد استند
[ ص: 317 ] إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه ، وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه ، وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن إفراد يوم الجمعة بالصوم .
فقد يلوح من هنا أن
مالكا يعتمد هذا العمل الذي يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين ، وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة ، فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به ، وتحريه إياه دليل على عدم السهو والغفلة ، وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف ، إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به ، وجهة فعله ، فصح الاقتداء .
والقسم الثالث : هو ألا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي ولا أخروي ، ولا دلت قرينة على جهة ذلك الفعل ، فإن قلنا في القسم الثاني بعدم
[ ص: 318 ] صحة الاقتداء ، فها هنا أولى ، وإن قلنا بالصحة فقد ينقدح فيه احتمال ، فإن قرائن التحري للفعل هنالك موجودة ، فهي دليل يتمسك به في الصحة .
وأما هاهنا ، فلما فقدت قوي احتمال الخطأ والغفلة وغيرهما ، هذا مع اقتران الاحتياط على الدين ، فالصواب والحالة هذه منع الاقتداء إلا بعد الاستبراء بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها ، ويتمكن قول من قال : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك ، ونحوه .
[ ص: 302 ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=22301_22312الِاقْتِدَاءُ بِالْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي الْأَفْعَالِ مِمَّنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عِصْمَتِهِ ، كَالِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ، أَوْ مَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَوْ بِالشَّرْعِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى الْخَطَأِ ، كَعَمَلِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ عَلَى رَأْيِ
مَالِكٍ .
وَالثَّانِي : مَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
فَأَمَّا الثَّانِي فَعَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِ قَصْدًا ، كَأَوَامِرِ الْحُكَّامِ وَنَوَاهِيهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فِي مَقْطَعِ الْحُكْمِ ، مِنْ أَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ ، وَرَدٍّ وَإِمْضَاءٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ يَتَعَيَّنُ بِالْقَرَائِنِ قَصْدُهُ إِلَيْهِ تَعَبُّدًا بِهِ ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ دِينًا وَأَمَانَةً .
وَالْآخَرُ : أَلَّا يَتَعَيَّنَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ ، لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ .
فَالْقَسَمُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو أَنْ يَقْصِدَ الْمُقْتَدِي إِيقَاعَ الْفِعْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ الْمُقْتَدَى بِهِ ، لَا يَقْصِدُ بِهِ إِلَّا ذَلِكَ ، سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَفَهِمَ مَغْزَاهُ أَمْ لَا
[ ص: 303 ] مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ تَنْوِيَةُ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي الْفِعْلِ أَحَسَنُ الْمَحَامِلِ مَعَ احْتِمَالِهِ فِي نَفْسِهِ ، فَيَبْنِي فِي اقْتِدَائِهِ عَلَى الْمَحْمَلِ الْأَحْسَنِ ، وَيَجْعَلُهُ أَصْلًا يُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ ، وَيُفَرَّعُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ ، كَمَا اقْتَدَى الصَّحَابَةُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ، كَنَزْعِ الْخَاتَمِ الذَّهَبِيِّ ، وَخَلْعِ النَّعْلَيْنِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ ، وَالْإِحْلَالِ مِنَ
[ ص: 304 ] الْعُمْرَةِ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُ الصَّحَابَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَيْهَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الثَّانِي ، فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ إِذَا أَمْكَنَ انْضِبَاطُ الْمَقْصِدِ ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ شَرْعًا فِي الِاقْتِدَاءِ ، لِأُمُورٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ إِلْغَاءٌ لِاحْتِمَالِ قَصْدِ الْمُقْتَدَى بِهِ دُونَ مَا نَوَاهُ الْمُقْتَدِي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ .
فَالِاحْتِمَالُ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُقْتَدِي لَا يَتَعَيَّنُ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُ لَمْ يَكُنْ تَرْجِيحُهُ إِلَّا بِالتَّشَهِّي ، وَذَلِكَ مُهْمَلٌ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ إِذْ لَا تَرْجِيحَ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ .
[ ص: 305 ] وَلَا يُقَالُ : إِنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ مَطْلُوبٌ عَلَى الْعُمُومِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ - وَإِنْ ظَهَرَتْ مَخَايِلُ احْتِمَالِ إِسَاءَةِ الظَّنِّ فِيهِ - مَطْلُوبٌ بِلَا شَكٍّ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ الْآيَةَ [ الْحُجُرَاتِ : 12 ] .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=12لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا الْآيَةَ [ النُّورِ : 12 ] .
بَلْ أُمِرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ - كَمَا أُمِرَ بِاعْتِقَادِ
[ ص: 306 ] مَا لَا يَعْلَمُ - فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=12وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [ النُّورِ : 12 ] .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=16وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [ النُّورِ : 16 ] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، وَلَا اعْتُبِرَ فِي عَدَالَةِ شَاهِدٍ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّحْسِينِ حَتَّى تَدُلَّ الْأَدِلَّةُ الظَّاهِرَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ الْغَالِبِ .
فَإِذَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=18796الْمُكَلَّفُ مَأْمُورًا بِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يَكُنْ كُلُّ مُسْلِمٍ عَدْلًا عِنْدَ الْمُحَسِّنِ بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّحْسِينِ حَتَّى تَحْصُلَ الْخِبْرَةُ أَوِ التَّزْكِيَةُ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِأَمْرٍ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ ، وَإِذَا لَمْ يُثْبِتْهُ لَمْ يَنْبَنِ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْأَفْعَالِ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ .
وَمِثَالُهُ كَمَا إِذَا فَعَلَ الْمُقْتَدَى بِهِ فِعْلًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دِينِيًّا تَعَبُّدِيًّا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُنْيَوِيًّا رَاجِعًا إِلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا ، وَلَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ ، فَيَحْمِلُهُ هَذَا الْمُقْتَدِي عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدَى بِهِ إِنَّمَا قَصَدَ الْوَجْهَ الدِّينِيَّ لَا الدُّنْيَوِيَّ بِنَاءً عَلَى تَحْسِينِهِ الظَّنَّ بِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقْتَدَى بِهِ مَثَلًا ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا ، وَافَقَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ خَالَفَ ؛ إِذْ لَوْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْمُطَابَقَةَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا لَمَا أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا ، بَلْ بِقَيْدِ الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْمُطَابَقَةَ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالِاقْتِدَاءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّحْسِينِ بِنَاءٌ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ ، لَا عَلَى أَمْرٍ حَصَلَ لِذَلِكَ الْمُقْتَدَى بِهِ ، لَكِنَّهُ قَصَدَ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءً عَلَى مَا
[ ص: 307 ] عِنْدَ الْمُقْتَدَى بِهِ ، فَأَدَّى إِلَى بِنَاءِ الِاقْتِدَاءِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، بِخِلَافِ الِاقْتِدَاءِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ عَلَامَاتِهِ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا انْبَنَى عَلَى أَمْرٍ حَصَلَ لِلْمُقْتَدَى بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الْمُقْتَدِي بِاقْتِدَائِهِ ، فَصَارَ كَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَيَّنَةِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا الِاقْتِدَاءَ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّنَاقُضَ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْتَدَى بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ظَنًّا مَثَلًا ، وَمُجَرَّدُ تَحْسِينِ الظَّنِّ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا عِلْمًا وَلَا ظَنًّا ، وَإِذَا لَمْ يَقْتَضِهِ لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّهُ كَذَلِكَ ، هَذَا خَلْفٌ مُتَنَاقِضٌ .
وَإِنَّمَا يَشْتَبِهُ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِنَفْسِ الظَّنِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ، لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الظَّنَّ نَفْسَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُقْتَدَى بِهِ مَثَلًا بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ ، حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ ، بِخِلَافِ تَحْسِينِ الظَّنِّ ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَانَ فِي الْخَارِجِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ أَوْ لَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الظَّنَّ نَاشِئٌ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ ضَرُورَةً لَا انْفِكَاكَ لِلْمُكَلَّفِ عَنْهُ ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْمُكَلَّفِ غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى نَفْيِ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ الْمُضْطَرِبَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِالْمُقْتَدَى بِهِ ، فَإِذَا جَاءَهُ خَاطِرُ الِاحْتِمَالِ الْأَحْسَنِ
[ ص: 308 ] قَوَّاهُ وَثَبَّتَهُ بِتَكْرَارِهِ عَلَى فِكْرِهِ ، وَوَعْظِ النَّفْسِ فِي اعْتِقَادِهِ ، وَإِذَا أَتَاهُ خَاطِرُ الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ ضَعَّفَهُ ، وَنَفَاهُ ، وَكَرَّرَ نَفْيَهُ عَلَى فِكْرِهِ ، وَمَحَاهُ عَنْ ذِكْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ الْمُقْتَدَى بِهِ ظَاهِرُهُ وَالْغَالِبُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَيْلُ إِلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالتَّزَوُّدُ لِلْمَعَادِ ، وَالِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ ، وَمُرَاقَبَةُ أَحْوَالِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ، فَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْفَرْدَ الْمُحْتَمَلَ مُلْحَقٌ بِذَلِكَ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ ، شَأْنَ الْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الْفَرْدَ إِذَا تَعَيَّنَ هَكَذَا عَلَى هَذَا الْفَرْضِ فَقَدْ يَقْوَى الظَّنُّ بِقَصْدِهِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْأُخْرَوِيِّ ، فَيَكُونُ مَجَالُ الِاجْتِهَادِ كَمَا سَيُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْفَرْضُ بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ تَحْسِينِ الظَّنِّ ، بَلْ عَلَى نَفْسِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى دَلِيلٍ يُثِيرُهُ ، وَالظَّنُّ الَّذِي يَكُونُ هَكَذَا قَدْ يَنْتَهِضُ فِي الشَّرْعِ سَبَبًا لِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ ، وَفَرْضُ مَسْأَلَتِنَا لَيْسَ هَكَذَا ، بَلْ عَلَى جِهَةِ أَلَّا يَكُونَ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ تَرْجِيحٌ يُثِيرُ مِثْلُهُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ ، وَيُضْعِفُ الِاحْتِمَالَ الْآخَرَ ، كَرَجُلٍ مُتَّقٍ لِلَّهِ مُحَافِظٍ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا شُغْلٌ إِلَّا بِمَا كُلِّفَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ، فَمِثْلُ هَذَا لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَالَانِ :
[ ص: 309 ] حَالٌ دُنْيَوِيٌّ ، بِهِ يُقِيمُ مَعَاشَهُ ، وَيَتَنَاوَلُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ .
وَحَالٌ أُخْرَوِيٌّ ، بِهِ يُقِيمُ أَمْرَ آخِرَتِهِ .
فَأَمَّا هَذَا الثَّانِي فَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ ، وَغَيْرُ مُحْتَمِلٍ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّوَادِرِ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ مَثَارُ الِاحْتِمَالِ ، فَالْمُبَاحُ مَثَلًا يُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حَيْثُ حَظِّ نَفْسِهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حَيْثُ حَقِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ ، فَإِذَا عَمِلَهُ وَلَمْ يَدْرِ وَجْهَ أَخْذِهِ فَالْمُقْتَدِي بِهِ بِنَاءً عَلَى تَحْسِينِ ظَنِّهِ بِهِ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا عَمِلَهُ مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ ، وَمُتَعَبِّدًا لَهُ بِهِ ، فَيَعْمَلُ بِهِ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُ إِلَّا تَحْسِينُ ظَنِّهِ بِالْمُقْتَدَى بِهِ ، لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ؛ إِذْ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا قَوِيًّا أَنْ يَقْصِدَ الْمُقْتَدَى بِهِ نَيْلَ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ حَظِّهِ ، فَلَا يُصَادِفُ قَصْدَ الْمُقْتَدِي مَحَلًّا ، بَلْ إِنْ صَادَفَ صَادَفَ أَمْرًا مُبَاحًا صَيَّرَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ ، وَالْمُبَاحُ لَا يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ .
بَلْ نَقُولُ : إِذَا وَقَفَ الْمُقْتَدَى بِهِ وَقْفَةً ، أَوْ تَنَاوَلَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهٍ ، أَوْ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فِي وَقْتٍ مَا ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَأَخَذَ هَذَا الْمُقْتَدِي يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْعِبَادَةَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَعْنًى دُنْيَوِيٍّ ، أَوْ غَافِلًا ، كَانَ هَذَا الْمُقْتَدِي مَعْدُودًا مِنَ الْحَمْقَى وَالْمُغَفَّلِينَ ، فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْمَسْأَلَةِ .
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ مَثَلًا ، فَأَعْطَاهُ صَدِيقًا لَهُ لِصَدَاقَتِهِ ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَصْنَعَ بِهِ مُبَاحًا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَيَقُولُ الْمُقْتَدِي : حُسْنُ الظَّنِّ بِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِهِ ، لَكِنْ آثَرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ
[ ص: 310 ] الْأُخْرَوِيِّ ، فَيَجِيءُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِيثَارِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى لَحَظَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337965وَاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ صِحَّةَ
nindex.php?page=treesubj&link=27927الْإِيثَارِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ ؛ إِذْ كَانَ إِنَّمَا يَدْعُو بِدَعْوَتِهِ الَّتِي أُعْطِيهَا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ لَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا .
فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ مَا قَالَهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكُنُهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ ، وَلَا قَدْحَ فِيهِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ ، فَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُحِبُّ مِنَ الدُّنْيَا أَشْيَاءَ ، وَيَنَالُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا أُبِيحَ لَهُ ، وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي أُمُورٍ ، كَحُبِّهِ لِلنِّسَاءِ ، وَالطِّيبِ ،
[ ص: 311 ] وَالْحَلْوَاءِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالدُّبَّاءِ ، وَكَرَاهِيَتِهِ لِلضَّبِّ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَكَانَ يَتَرَخَّصُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ ، وَهُوَ مَنْقُولٌ كَثِيرًا .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ دَعَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ، كَاسْتِعَاذَتِهِ مِنَ الْفَقْرِ ، وَالدَّيْنِ ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ ، وَالْهَمِّ ، وَأَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْ ذَلِكَ أُمُورَ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ ، وَيَدُلُّ
[ ص: 312 ] عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ جُمْلَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دَعَوُا الدَّعْوَةَ الْمَضْمُونَةَ الْإِجَابَةِ لَهُمُ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337966لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فِي أُمَّتِهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِالدُّنْيَا جَائِزٍ لَهُمْ ، وَهُوَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نُوحٍ : 26 ] حَسْبَمَا نَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ ، وَكَانَ مِنَ
[ ص: 313 ] الْمُمْكِنِ أَنْ يَدْعُوَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، فَكَوْنُهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ صَفْوَةُ اللَّهِ مَنْ خَلْقِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِمْ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ مَصْرُوفَةً إِلَى الْآخِرَةِ فَقَطْ ، فَكَذَلِكَ دَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ أَلْبَتَّةَ ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَ هَذَا الْعَالِمُ .
وَأَمْرٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّا لَوْ بَنَيْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، لَكُنَّا نَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ الْآدَمِيَّةِ أَوْ لَا ؛ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ قَصَدَ بِهَا أُمُورًا أُخْرَوِيَّةً ، وَتَعَبُّدًا مَخْصُوصًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، بَلْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ مُخْتَصًّا بِالدُّنْيَا إِلَّا مَنْ بَيَّنَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ إِذْ ذَاكَ كَوْنُهُ دُنْيَوِيًّا لِخَفَاءِ قَصْدِهِ فِيهِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ جِهَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا ، فَلَا يَحْصُلُ مِنْ بَيَانِ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا الْقَلِيلُ ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ يَقْتَضِي أَنَّ الدَّعْوَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْأُمَّةِ ، لِقَوْلِهِ فِيهِ :
[ ص: 314 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=10337966لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فِي أُمَّتِهِ فَلَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِهِ ، فَلَا يَحْصُلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِيثَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِيثَارَ ثَانٍ عَنْ قَبُولِ الِانْتِفَاعِ فِي جِهَةِ الْمُؤَثِّرِ ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : إِنْ كَانَ مِثْلَ انْتِصَابِ الْحَاكِمِ وَنَحْوِهِ ، فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَصْرِيحِهِ بِالِانْتِصَابِ لِلنَّاسِ ، وَتَصْرِيحِهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَفْعُولِ أَوِ الْمَتْرُوكِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَعَيَّنَ فِيهِ قَصْدُ الْعَالِمِ إِلَى التَّعَبُّدِ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ ، بِالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، فَهُوَ مَوْضِعُ احْتِمَالٍ .
فَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ : إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا تَطَرَّقَ إِلَى أَفْعَالِهِ الْخَطَأُ ، وَالنِّسْيَانُ ، وَالْمَعْصِيَةُ قَصْدًا ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَجْهُ فِعْلِهِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ
[ ص: 315 ] بِهِ فِيهِ قَصْدًا فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ فِي الْعَادَاتِ ؟ وَلِذَلِكَ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : أَضْعَفُ الْعِلْمِ الرُّؤْيَةُ ، يَعْنِي : أَنْ يَقُولَ : رَأَيْتُ فُلَانًا يَعْمَلُ كَذَا ، وَلَعَلَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12444إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ : لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ قَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=22إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ الْآيَةَ [ الزُّخْرُفِ : 22 ] .
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الْمُرْتَابِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337967سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ .
فَالِاقْتِدَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَفْرُوضِ كَالِاقْتِدَاءِ بِسَائِرِ النَّاسِ ، أَوْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ .
وَلِلْمُجِيزِ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مَعْمُولٌ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ ، وَإِذَا تَعَيَّنَ بِالْقَرَائِنِ قَصْدُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ - وَلَا سِيَّمَا فِي الْعِبَادَاتِ ، وَمَعَ التَّكْرَارِ أَيْضًا ،
[ ص: 316 ] وَهُوَ مِنْ أَهِلِ الِاقْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ - فَالِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِ كَذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ
مَالِكٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=2539إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ : إِنَّهُ جَائِزٌ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ ، قَالَ : وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ ، فَقَدِ اسْتَنَدَ
[ ص: 317 ] إِلَى فِعْلِ بَعْضِ النَّاسِ عِنْدَ ظَنِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِهِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عُمْدَةً مُسْقِطَةً لِحُكْمِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ .
فَقَدْ يُلَوَّحُ مِنْ هُنَا أَنَّ
مَالِكًا يَعْتَمِدُ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ صَاحِبِهِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ جَهْلًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَفْلَةً ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ يَقْتَضِي عَمَلَهُ بِهِ ، وَتَحَرِّيهِ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ، وَعَلَى هَذَا يَجْرِي مَا اعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ ، إِذَا تَأَمَّلْتَهَا وَجَدْتَهَا قَدِ انْضَمَّتْ إِلَيْهَا قَرَائِنُ عَيَّنَتْ قَصْدَ الْمُقْتَدَى بِهِ ، وَجِهَةَ فِعْلِهِ ، فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : هُوَ أَلَّا يَتَعَيَّنَ فِعْلُ الْمُقْتَدَى بِهِ لِقَصْدٍ دُنْيَوِيٍّ وَلَا أُخْرَوِيٍّ ، وَلَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى جِهَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْقَسَمِ الثَّانِي بِعَدَمِ
[ ص: 318 ] صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ ، فَهَا هُنَا أَوْلَى ، وَإِنْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فَقَدْ يَنْقَدِحُ فِيهِ احْتِمَالٌ ، فَإِنَّ قَرَائِنَ التَّحَرِّي لِلْفِعْلِ هُنَالِكَ مَوْجُودَةٌ ، فَهِيَ دَلِيلٌ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الصِّحَّةِ .
وَأَمَّا هَاهُنَا ، فَلَمَّا فُقِدَتْ قَوِيَ احْتِمَالُ الْخَطَأِ وَالْغَفْلَةِ وَغَيْرِهِمَا ، هَذَا مَعَ اقْتِرَانِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الدِّينِ ، فَالصَّوَابُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَنْعُ الِاقْتِدَاءِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ النَّازِلَةِ الْمُقَلَّدِ فِيهَا ، وَيَتَمَكَّنُ قَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ ، وَنَحْوُهُ .