[ ص: 141 ] [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] الطرف الثاني
في الأدلة على التفصيل
وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والرأي
ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما ; اقتصرنا على النظر فيهما .
وأيضا ; فإن في أثناء الكتاب كثيرا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما ، مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما ; فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي ، والاقتصار على الكتاب والسنة ، والله المستعان .
فالأول أصلها ، وهو الكتاب ، وفيه مسائل :
[ ص: 144 ] المسألة الأولى
إن الكتاب قد تقرر أنه
nindex.php?page=treesubj&link=26502كلية الشريعة وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر ، وأنه لا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسك بشيء يخالفه ، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه ; لأنه معلوم من دين الأمة ، وإذا كان كذلك ; لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها ، واللحاق بأهلها ، أن يتخذه سميره وأنيسه ، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا ، لا اقتصارا على أحدهما ; فيوشك أن يفوز بالبغية ، وأن يظفر بالطلبة ، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول ، فإن كان قادرا على ذلك ، ولا يقدر عليه إلا من زوال ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب ، وإلا فكلام الأئمة السابقين ، والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف ، والمرتبة المنيفة .
وأيضا ; فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء ، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله ; فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ، ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى ، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي ، كما تبين في كتاب الاجتهاد ; إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه ; لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن الأمة ، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه ; إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب ، مفهوم معقول ، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله
[ ص: 145 ] ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال أعجز ما كانوا عن معارضته وقد قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=97فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3قرآنا عربيا لقوم يعلمون [ فصلت : 3 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] وعلى أي وجه فرض إعجازه ; فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه ،
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ ص : 29 ] فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم ، وكذلك ما كان مثله ، وهو ظاهر .
[ ص: 141 ] [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] الطَّرَفُ الثَّانِي
فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ
وَهِيَ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالرَّأْيُ
وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الْأَصْلُ لِمَا سِوَاهُمَا ; اقْتَصَرْنَا عَلَى النَّظَرِ فِيهِمَا .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ النَّاظِرُ فِي غَيْرِهِمَا ، مَعَ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ تَكَفَّلُوا بِمَا عَدَاهُمَا كَمَا تَكَفَّلُوا بِهِمَا ; فَرَأَيْنَا السُّكُوتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالرَّأْيِ ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَالْأَوَّلُ أَصْلُهَا ، وَهُوَ الْكِتَابُ ، وَفِيهِ مَسَائِلُ :
[ ص: 144 ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
إِنَّ الْكِتَابَ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=26502كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرٍ وَاسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; لَزِمَ ضَرُورَةً لِمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَطَمِعَ فِي إِدْرَاكِ مَقَاصِدِهَا ، وَاللِّحَاقِ بِأَهْلِهَا ، أَنْ يَتَّخِذَهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ جَلِيسَهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي نَظَرًا وَعَمَلًا ، لَا اقْتِصَارًا عَلَى أَحَدِهِمَا ; فَيُوشِكُ أَنْ يَفُوزَ بِالْبُغْيَةِ ، وَأَنْ يَظْفَرَ بِالطُّلْبَةِ ، وَيَجِدَ نَفْسَهُ مِنَ السَّابِقِينَ وَفِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ زَوَالِ مَا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْكِتَابِ ، وَإِلَّا فَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ ، وَالسَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ آخِذٌ بِيَدِهِ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ الشَّرِيفِ ، وَالْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَةِ .
وَأَيْضًا ; فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا أَفْحَمَ الْفُصَحَاءَ ، وَأَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ ; فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَارِيًا عَلَى أَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، مُيَسَّرًا لِلْفَهْمِ فِيهِ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى ، لَكِنْ بِشَرْطِ الدُّرْبَةِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ ; إِذْ لَوْ خَرَجَ بِالْإِعْجَازِ عَنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ مَعَانِيهِ ; لَكَانَ خِطَابُهُمْ بِهِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ، وَذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْأُمَّةِ ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْوُجُوهِ الْإِعْجَازِيَّةِ فِيهِ ; إِذْ مِنَ الْعَجَبِ إِيرَادُ كَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي اللِّسَانِ وَالْمَعَانِي وَالْأَسَالِيبِ ، مَفْهُومٌ مَعْقُولٌ ، ثُمَّ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
[ ص: 145 ] وَلَوِ اجْتَمَعُوا وَكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا فَهُمْ أَقْدَرُ مَا كَانُوا عَلَى مُعَارَضَةِ الْأَمْثَالِ أَعْجَزُ مَا كَانُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ : 17 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=97فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [ مَرْيَمَ : 97 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=3قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [ فُصِّلَتْ : 3 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ الشُّعَرَاءِ : 195 ] وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَ إِعْجَازُهُ ; فَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى فَهْمِهِ وَتَعَقُّلِ مَعَانِيهِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=29كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ ص : 29 ] فَهَذَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ الْوُصُولِ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهُ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .