فصل
فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها ; فهو داخل تحت الظاهر .
فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن ، فإذا فهم الفرق بين ضيق في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125يجعل صدره ضيقا حرجا [ الأنعام : 125 ] وبين ضائق في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=12وضائق به صدرك [ هود : 12 ]
[ ص: 215 ] والفرق بين النداء ب يا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الذين كفروا وبين النداء ب يا أيها الناس أو ب يا بني آدم والفرق بين ترك العطف في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=6إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم [ البقرة : 6 ] والعطف في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=6ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين والفرق بين تركه أيضا في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=154ما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 154 ] وبين الآية الأخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=186وما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 186 ]
[ ص: 216 ] والفرق بين الرفع في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=69قال سلام [ هود : 69 ] والنصب فيما قبله من قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=69قالوا سلاما [ هود : 069 ] والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا [ الأعراف : 201 ] وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201فإذا هم مبصرون [ الأعراف : 201 ] أو فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=131فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ الأعراف : 131 ] وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا والمستقبل مع إن
[ ص: 217 ] وكذلك قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=36وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [ الروم : 36 ] مع إتيانه بقوله : فرحوا بعد إذا ويقنطون بعد إن ، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان ، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي ; فقد حصل فهم ظاهر القرآن .
ومن هنا حصل
nindex.php?page=treesubj&link=28899إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة ; فقال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية [ البقرة : 23 ] . وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله [ هود : 13 ] وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها ; إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة ، ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله ، فإذا عرفوا عجزهم عنه ; عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى
[ ص: 218 ] وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية ، والإقرار لله بالربوبية ، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله .
ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا ، ومن ذلك أنه لما نزل :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=245من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=11856أبو الدحداح : إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا هذا معنى الحديث وقالت
اليهود :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=181إن الله فقير ونحن أغنياء [ آل عمران : 181 ] ففهم
nindex.php?page=showalam&ids=11856أبي الدحداح هو الفقه ، وهو الباطن المراد ، وفي رواية :
قال nindex.php?page=showalam&ids=11856أبو الدحداح : يستقرضنا وهو غني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ليدخلكم الجنة ، وفي الحديث قصة ، وفهم
اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر ، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير ، عافانا الله من ذلك .
[ ص: 219 ] [ ص: 220 ] ومن ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها إنما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه ألا ترى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] وفي الأخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9قليلا ما تشكرون [ السجدة : 9 ] والشكر ضد الكفر ; فالإيمان وفروعه هو الشكر ، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد ; فهو الذي فهم المراد من الخطاب ، وحصل باطنه على التمام ، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط ; فهذا خارج عن المقصود ، وواقف مع ظاهر الخطاب ; فإن الله قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ التوبة : 5 ] ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ التوبة : 5 ] فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه
[ ص: 221 ] المسلمون موجب لتخلية سبيلهم فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا ، وتركوا المقصود من ذلك ، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة ، فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره ; فمن دخلها عريا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن ؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول ; فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير ، عودا عليه بالمزيد ; فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك ، كيف يكون شاكرا للنعمة ؟ وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملا بقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] حتى يجري على معنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=4فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [ النساء : 4 ] وتجري هاهنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى ; لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير ، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود ; اقتحم هذه المتاهات البعيدة .
وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا ، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ; كما قال
الخوارج لعلي : إنه حكم
[ ص: 222 ] الخلق في دين الله ، والله يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=57إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ، ويوسف : 40 ، 67 ] وقالوا : إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين ; فهو إذا أمير الكافرين
[ ص: 223 ] وقالوا
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس : لا تناظروه ; فإنه ممن قال الله فيهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 58 ] وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=14تجري بأعيننا [ القمر : 14 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=71مما عملت أيدينا [ يس : 71 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11وهو السميع البصير [ الشورى : 11 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67والأرض جميعا قبضته يوم القيامة [ الزمر : 67 ] وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين ; فأسرفوا ما شاءوا فلو نظر
الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يحكم به ذوا عدل منكم [ المائدة : 95 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=35فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] لعلموا أن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=57إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ] غير مناف لما فعله
علي ، وأنه من جملة حكم الله ; فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده ، فكذلك ما كان مثله مما فعله
علي .
ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده ; لما قالوا : إنه أمير الكافرين ، وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها ، وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين .
وعلى الجملة ; فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم ; فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما ، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب ; فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه .
فَصْلٌ
فَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي لَا يَنْبَنِي فَهْمُ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَيْهَا ; فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الظَّاهِرِ .
فَالْمَسَائِلُ الْبَيَانِيَّةُ وَالْمَنَازِعُ الْبَلَاغِيَّةُ لَا مَعْدِلَ بِهَا عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، فَإِذَا فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ ضَيِّقٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [ الْأَنْعَامِ : 125 ] وَبَيْنَ ضَائِقٍ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=12وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [ هُودٍ : 12 ]
[ ص: 215 ] وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّدَاءِ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا وَبَيْنَ النِّدَاءِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَوْ بِ يَا بَنِي آدَمَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=6إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [ الْبَقَرَةِ : 6 ] وَالْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=6وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [ لُقْمَانَ : 6 ] وَكِلَاهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِهِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=154مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [ الشُّعَرَاءِ : 154 ] وَبَيْنَ الْآيَةِ الْأُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=186وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [ الشُّعَرَاءِ : 186 ]
[ ص: 216 ] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=69قَالَ سَلَامٌ [ هُودٍ : 69 ] وَالنَّصْبِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=69قَالُوا سَلَامًا [ هُودٍ : 069 ] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ فِي التَّذَكُّرِ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [ الْأَعْرَافِ : 201 ] وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْإِبْصَارِ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ الْأَعْرَافِ : 201 ] أَوْ فُهِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ إِذَا وَإِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=131فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [ الْأَعْرَافِ : 131 ] وَبَيْنَ جَاءَتْهُمْ وَتُصِبْهُمْ بِالْمَاضِي مَعَ إِذَا وَالْمُسْتَقْبَلِ مَعَ إِنْ
[ ص: 217 ] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=36وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [ الرُّومِ : 36 ] مَعَ إِتْيَانِهِ بِقَوْلِهِ : فَرِحُوا بَعْدَ إِذَا وَيَقْنَطُونَ بَعْدَ إِنْ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْبَيَانِ ، فَإِذَا حَصَلَ فَهْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ; فَقَدْ حَصَلَ فَهْمُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ .
وَمِنْ هُنَا حَصَلَ
nindex.php?page=treesubj&link=28899إِعْجَازُ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِعْجَازَهُ بِالْفَصَاحَةِ ; فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 23 ] . وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ هُودٍ : 13 ] وَهُوَ لَائِقٌ أَنْ يَكُونَ الْإِعْجَازُ بِالْفَصَاحَةِ لَا بِغَيْرِهَا ; إِذْ لَمْ يُؤْتَوْا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا مِنْ بَابِ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِثْلَهُ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلِأَنَّهُمْ دُعُوا وَقُلُوبُهُمْ لَاهِيَةٌ عَنْ مَعْنَاهُ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ إِنْزَالِهِ ، فَإِذَا عَرَفُوا عَجْزَهُمْ عَنْهُ ; عَرَفُوا صِدْقَ الْآتِي بِهِ وَحَصَلَ الْإِذْعَانُ وَهُوَ بَابُ التَّوْفِيقِ وَالْفَهْمِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى
[ ص: 218 ] وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْمُخَاطَبِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، فَذَلِكَ هُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ .
وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالشَّوَاهِدِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=245مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ الْبَقَرَةِ : 245 ] قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11856أَبُو الدَّحْدَاحِ : إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ اسْتَقْرَضَ مِنَّا مَا أَعْطَانَا هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ وَقَالَتِ
الْيَهُودُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=181إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [ آلِ عِمْرَانَ : 181 ] فَفَهْمُ
nindex.php?page=showalam&ids=11856أَبِي الدَّحْدَاحِ هُوَ الْفِقْهُ ، وَهُوَ الْبَاطِنُ الْمُرَادُ ، وَفِي رِوَايَةٍ :
قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=11856أَبُو الدَّحْدَاحِ : يَسْتَقْرِضُنَا وَهُوَ غَنِيٌّ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : نَعَمْ لِيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ ، وَفَهْمُ
الْيَهُودِ لَمْ يَزِدْ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَوْلِ الْعَرَبِيِّ الظَّاهِرِ ، ثُمَّ حَمَلَ اسْتِقْرَاضَ الرَّبِّ الْغَنِيِّ عَلَى اسْتِقْرَاضِ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ .
[ ص: 219 ] [ ص: 220 ] وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورَ بِهَا بَلِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا طُلِبَ بِهَا الْعَبْدُ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ النَّحْلِ : 78 ] وَفِي الْأُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [ السَّجْدَةِ : 9 ] وَالشُّكْرُ ضِدُّ الْكُفْرِ ; فَالْإِيمَانُ وَفُرُوعُهُ هُوَ الشُّكْرُ ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ تَحْتَ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ بِهَذَا الْقَصْدِ ; فَهُوَ الَّذِي فَهِمَ الْمُرَادَ مِنَ الْخِطَابِ ، وَحَصَّلَ بَاطِنَهُ عَلَى التَّمَامِ ، وَإِنْ هُوَ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى عِصْمَةِ مَالِهِ وَدَمِهِ فَقَطْ ; فَهَذَا خَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ ، وَوَاقِفٌ مَعَ ظَاهِرِ الْخِطَابِ ; فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [ التَّوْبَةِ : 5 ] ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=5فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [ التَّوْبَةِ : 5 ] فَالْمُنَافِقُ إِنَّمَا فَهِمَ مُجَرَّدَ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مِنْ أَنَّ الدُّخُولَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ
[ ص: 221 ] الْمُسْلِمُونَ مُوجِبٌ لِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ فَعَمِلُوا عَلَى الْإِحْرَازِ مِنْ عَوَادِي الدُّنْيَا ، وَتَرَكُوا الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ ، فَإِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تُشْعِرُ بِإِلْزَامِ الشُّكْرِ بِالْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لِأَمْرِهِ ; فَمَنْ دَخَلَهَا عَرِيًّا مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ يُعَدُّ مِمَّنْ فَهِمَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ ؟ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ; فَوَجَبَ عَلَيْهِ شُكْرُ النِّعْمَةِ بِبَذْلِ الْيَسِيرِ مِنَ الْكَثِيرِ ، عَوْدًا عَلَيْهِ بِالْمَزِيدِ ; فَوَهَبَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنْ أَدَائِهَا لَا قَصْدَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ ، كَيْفَ يَكُونُ شَاكِرًا لِلنِّعْمَةِ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ يُضَارُّ الزَّوْجَةَ لِتَنْفَكَّ لَهُ مِنَ الْمَهْرِ عَلَى غَيْرِ طِيبِ النَّفْسِ لَا يُعَدُ عَامِلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=229فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ الْبَقَرَةِ : 229 ] حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=4فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [ النِّسَاءِ : 4 ] وَتَجْرِي هَاهُنَا مَسَائِلُ الْحِيَلِ أَمْثِلَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَنْ فَهِمَ بَاطِنَ مَا خُوطِبَ بِهِ لَمْ يَحْتَلْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ حَتَّى يَنَالَ مِنْهَا بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ ، وَمَنْ وَقَفَ مَعَ مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ ; اقْتَحَمَ هَذِهِ الْمَتَاهَاتِ الْبَعِيدَةَ .
وَكَذَلِكَ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُبْتَدَعَةِ أَمْثِلَةً أَيْضًا ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ; كَمَا قَالَ
الْخَوَارِجُ لِعَلِيٍّ : إِنَّهُ حَكَّمَ
[ ص: 222 ] الْخَلْقَ فِي دِينِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=57إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [ الْأَنْعَامِ : 57 ، وَيُوسُفَ : 40 ، 67 ] وَقَالُوا : إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَهُوَ إِذًا أَمِيرُ الْكَافِرِينَ
[ ص: 223 ] وَقَالُوا
nindex.php?page=showalam&ids=11لِابْنِ عَبَّاسٍ : لَا تُنَاظِرُوهُ ; فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [ الزُّخْرُفِ : 58 ] وَكَمَا زَعَمَ أَهْلُ التَّشْبِيهِ فِي صِفَةِ الْبَارِي حِينَ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=14تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [ الْقَمَرِ : 14 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=71مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [ يس : 71 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشُّورَى : 11 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ الزُّمَرِ : 67 ] وَحَكَّمُوا مُقْتَضَاهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ ; فَأَسْرَفُوا مَا شَاءُوا فَلَوْ نَظَرَ
الْخَوَارِجُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَكَّمَ الْخَلْقَ فِي دِينِهِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 95 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=35فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ : 35 ] لَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=57إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [ الْأَنْعَامِ : 57 ] غَيْرُ مُنَافٍ لِمَا فَعَلَهُ
عَلِيٌّ ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حُكْمِ اللَّهِ ; فَإِنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ يَرْجِعُ بِهِ الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلُهُ مِمَّا فَعَلَهُ
عَلِيٌّ .
وَلَوْ نَظَرُوا إِلَى مَحْوِ الِاسْمِ مِنْ أَمْرٍ لَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُ لِضِدِّهِ ; لَمَّا قَالُوا : إِنَّهُ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ ، وَهَكَذَا الْمُشَبِّهَةُ لَوْ حَقَّقَتْ مَعْنَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشُّورَى : 11 ] فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَفَهِمُوا بَوَاطِنَهَا ، وَأَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْمَخْلُوقِينَ .
وَعَلَى الْجُمْلَةِ ; فَكُلُّ مَنْ زَاغَ وَمَالَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ; فَبِمِقْدَارِ مَا فَاتَهُ مِنْ بَاطِنِ الْقُرْآنِ فَهْمًا وَعِلْمًا ، وَكُلُّ مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ وَصَادَفَ الصَّوَابَ ; فَعَلَى مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ فَهْمِ بَاطِنِهِ .